كنت وما زلت آتي بما يلفت انتباه السائرين في الطريق إلى تطبيع حياتهم الشخصية، والمصالحة بين ما يعرفونه وبين ما يأتونه، وعدم الحيلولة بين نفسياتهم وأفعالهم بضوابط وقيود قد لا تمت إلى حقيقة التدين بسبب، وإنما هي استحسانات فردية، وتصرفات قد يصح أن يطلق عليها «زهدية».. قد لا أستطيع الاستهلال بمقدمة «سحرية» تمحو ما رسخ وتجذر في نفوس كثير من الناس، وربما ألهاني حرصي عن التقاط ألفاظ الإمتاع، وأدبيات الإقناع، ورونقة الخطاب، لتقويم ما اعوج من الفهم، وإبراز ما أبهم من العلم، حتى أصبح كثير من طلبته يجهلون مبتغاهم، ويحومون حول عبارات ومرويات أثرت كثيرًا في رسم الصورة العامة للتدين. وكنت وما زلت آتي بما يلفت انتباه السائرين في الطريق إلى تطبيع حياتهم الشخصية، والمصالحة بين ما يعرفونه وبين ما يأتونه، وعدم الحيلولة بين نفسياتهم وأفعالهم بضوابط وقيود قد لا تمت إلى حقيقة التدين بسبب، وإنما هي استحسانات فردية، وتصرفات قد يصح أن يطلق عليها «زهدية»، وما كان كذلك فسبيله العزيمة الشخصية التي قد لا تتلاءم مع كثير من النفسيات، ومن ذلك الزهد في المباحات، وهو أمر عتيق في الأديان، وترغيب الإسلام فيه لا يخفى على أهل الحديث والقرآن، غير أن السلوك التطبيقي لتلك الكوكبة من الآيات والأحاديث فيه، قد أرشدنا إليه رسولنا صلى الله عليه وآله، في سنته العملية، ومعاملته الزهدية، مع صحبه وأهله في مجتمعه، وهو أزهد الزاهدين، وأتقى السالكين، فرأينا حياته طبيعية إنسانية مكتملة، يشف عنها (وإنك لعلى خلق عظيم)، ويصورها (وما أنا من المتكلفين)! يدخل صلى الله عليه وآله ذات يوم المسجد فيجد حبلًا ممدودًا فسأل عنه، قالوا: لفلانة، تصلي فإذا فترت أمسكت به. وهو ما يحصل من كثير من الناس ظنًّا منهم أن التدين في المشقة على النفس! فقال صلى الله عليه وآله: مه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد. فالنوم مباح، والصلاة قربة، إلا أن إتيان هذا المباح مأمور به شرعًا وعقلًا حين يرسم تركُه صورة سيئة عن التدين؛ لأن الإسلام ليس دين الرهبنة والشقاء (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى). وليس كل أحد يخاطب بفعل العزائم، وسلوك إجهاد النفس، فهي إن توافقت لشخص لا تتوافق مع ملايين الناس من المسلمين، بل الآخذ بالعزيمة نفسه يجد نفسه ملّ بعد حين، وعبدالله بن عمرو صحابي جليل، يقول في آخر عمره: لأن أكون قبلت الثلاثة أيام التي قال الرسول صلى الله عليه وآله أحب إلي من أهلي. والقصة في الصحيح، أنه قال: لأصومن الدهر، وأقومن الليل ماعشت. فقال له صلى الله عليه وآله: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام. وهو يقول: أطيق أكثر. حتى استقر على صيام يوم وإفطار يوم! ومع أن هذا أفضل الصيام إلا أن النبي صلى الله عليه وآله أرشده إلى ما هو دونه تفسيرًا عمليّاً بأن ما جاء في هذا الباب من الترغيب في بعض العبادات، والتزهيد في بعض المباحات، لا يصلح أن يُخاطب به خطابًا عامًا، وإرشاد العامة إليه إرشادًا مطلقًا، فإن الذي رغّب في العبادات ويحبها هو من رغب في المباحات ويحب فعلها أيضاً. وفي الحديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. ولعل لنا هنا وقفة تعارض ما ينقل عن بعضهم «من تتبع رخص العلماء فقد تزندق» فقد اتخذها كثير ممن لا فقه له في الطعن في آراء علماء قرروها وأصلوا لها واستدلوا بما يجعلها داخلة في قوله صلى الله عليه وآله «كما يحب أن تؤتى رخصه». فإن الرخص التي يحبها الله إما أن تدل عليها آية أو حديث، أو ما يستنبطه الفقهاء والعلماء من أدلة الكتاب والسنة، أو مما بقي على أصله في الإباحة، أو اختلف فيه فهو عند قوم رخصة وعند قوم لا رخصة فيه. هذا، والله من وراء القصد. Your browser does not support the video tag.