جاء هذا اللقاء غاية في الحكمة والنية الصادقة للعمل الإسلامي لتحقيق مصالح المسلمين أولاً، والتعاون لتحقيق السلام والسلم والتعايش الإنساني ثانياً، بعد سلسلة مواقف كثيرة أبدى فيها البابا فرانسيسكو دعماً واضحاً لقضايا إسلامية، ودفاعاً عن الإسلام ورفضاً قاطعاً لوصمه بالإرهاب.. لم يمنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي جاء برسالة التوحيد ومحاربة الشرك، وهو خاتم الأنبياء ودينه ناسخُ الأديان، أن يقول عن ملك ٍ نصراني في دولة غير مسلمة: «إن بالحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد» وأمر أصحابه أن يهاجروا ليعيشوا في ظل عدالة هذا الملك النصراني ليأمنوا على دينهم وأنفسهم. إن ذلك ليس حالةً استثنائيةً يمنع الإسلام تكرارها؛ بل هو تجسيدٌ لأساسٍ إسلاميٍ متين، يؤكد أن الإسلام دين سلامٍ وتعايشٍ وتعاون مع الشعوب والديانات لما فيه إحقاق الحق والعدل ونشر السلام. حضرت هذه الصورة الجليلة من صور السيرة النبوية في ذهني مباشرةً وأنا أتابع أخبار الأحداث التاريخية غير المسبوقة المتمثلة في انعقاد مؤتمرٍ عظيمٍ في نيويورك بتنظيم ورعاية رابطة العالم الإسلامي، تحت عنوان (التواصل الحضاري بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والعالم الإسلامي) خلال يومي 16 و17 سبتمبر الماضي، متزامناً مع حضور قادة العديد من دول العالم لاجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقد شارك في المؤتمر أكثر من 450 عالماً ومفكراً وباحثاً يمثلون أكثر من أربعين دولة، وممثلين عن قيادات دينية وقادة منظمات مهتمة بتواصل وتعاون أتباع الديانات، على مستوى لم يسبق له نظير خلال عشرات السنوات. إن انعقاد ونجاح مثل هذا المؤتمر في أعقد وأصعب الظروف التي تمر بالمسلمين في البلدان الإسلامية، والمسلمين الذين يعيشون في أمريكا والغرب من مهاجرين أو مواطنين أصليين، نظراً لما أصبح يوجه لهم من هجوم شرس من كثير من وسائل الإعلام الأمريكية والغربية التي صارت تربط الإرهاب بالإسلام، وتضع المسلمين في تلك المجتمعات في دائرة الشك، وتضخم ما يسمى ب(الإسلام فوبيا) لدى غير المسلمين في تلك المجتمعات، مما ينذر بأخطار وتداعيات غير حميدة قد تؤدي لارتفاع وتيرة الإرهاب والأعمال العدائية، وإضعاف الانتماء والمواطنة الإيجابية الفاعلة التي ظل المسلمون يتسمون بها في الدول غير الإسلامية التي يحملون جنسيتها أو يعيشون على أرضها. وعلى غير عادة الكثير من المؤتمرات والفعاليات المشابهة، انتهى هذا المؤتمر بعد أن ابتدأ بحسن التخطيط إلى تحقيق مكاسب واضحة وضخمة بشكل فوري، ووضع توصيات ٍشاملة عميقة توافق عليها المشاركون وصاغوها لتترجم ما شعروا به من ضرورة وأهمية مواضيع المؤتمر وأهدافه. فكان من أبرز مؤشرات النتائج الإيجابية الفورية ما صرح به الأمين العام لمجلس الأديان العالمي من أجل السلام وليام فندلي بقوله: «التعاون الذي يربط مجلس الأديان بالرابطة يجعلني فخوراً بمثل هذه العلاقة الوثيقة بين المؤسستين، وآمل أن يستمر التنسيق بين كافة الأطراف من أجل ترسيخ السلام في العالم». وكانت كلمة معالي أمين عام رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى بصمة فارقة في ذلك المؤتمر لتركيزها على دحض نظرية (صدام الحضارات) بكلمة تستحق الوقوف معها في مقال مستقل لعمق مضامينها، ابتكر فيها الشيخ العيسى مصطلحاً جديداً لم يسبق لأحد استعماله هو ما أسماه (تحالف الحضارات) وقد لفت هذا المصطلح اهتمام كثير من المحللين الذين تناولوه بالتعليق والتحليل. أما الحديث التاريخي الآخر الذي جاء بمثابة الشروع الفوري في تنفيذ توصيات المؤتمر، فهو اللقاء الكبير الذي جمع معالي أمين رابطة العالم الإسلامي د.محمد العيسى مع البابا فرانسيسكو بابا الفاتيكان، أثناء زيارة رسمية لمعاليه لدولة الفاتيكان والعاصمة الإيطالية روما، أثمر هذا اللقاء تكوين لجنة اتصال دائمة بين الفاتيكان ممثلاً بالمجلس البابوي، ورابطة العالم الإسلامي ممثلةً للعالم الإسلامي. وقد جاء هذا اللقاء غاية في الحكمة والنية الصادقة للعمل الإسلامي لتحقيق مصالح المسلمين أولاً، والتعاون لتحقيق السلام والسلم والتعايش الإنساني ثانياً، بعد سلسلة مواقف كثيرة أبدى فيها البابا فرانسيسكو دعماً واضحاً لقضايا إسلامية، ودفاعاً عن الإسلام ورفضاً قاطعاً لوصمه بالإرهاب، فكان حرياً بصوت العالم الإسلامي المتمثل في الرابطة أن يرد على صوت بابا الفاتيكان، وأن يظهر له تثمين المسلمين لهذه المواقف، وتطلعهم إلى مد جسور التعاون والتعايش. ولئن كانت رابطة العالم الإسلامي تعد منظمة عالمية تمثل صوت المسلمين في كل مكان؛ إلا أنه لا يفوتني إغفال تعليق وسائل إعلام ٍعالمية وصفت معالي أمين رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى بأنه «يقود أحد أهم أسلحة السعودية في نطاق القوة الناعمة لنشر وبيان منهج المملكة الصحيح في العالم» وذلك يأتي منسجماً بشكل تام مع رؤية المملكة الحديثة التي جعلت من عمق المملكة الإسلامي أول وأهم مرتكزات نجاح هذه الرؤية.