كثيراً ما يستوقفنا موقف أحد الشباب من جيل الأمس عندما يلتقي بأحد أساتذته وخصوصاً في المرحلة الابتدائية إذ يسارع فوراً بالسلام عليه بطبع قبلة امتنان حارة على جبينه رغم القسوة التي كان يجدها منه أثناء تعليمه صغيراً وذلك عرفاناً منه بما قدّمه إليه هذا المعلم أثناء دراسته من تربية وتعليم واهتمام بل وقدوة، فمعلمو جيل الأمس كانت لهم هيبة واحترام لدى جميع الطلاب، إذ كانت الجدية تبدأ منذ الدقائق الأولى من اليوم الدراسي فلا وقت لإضاعته، فالكل يقبل على شرح الدروس ومتابعة أداء الطلاب وواجباتهم، ورغم القسوة التي كان يتصف بها الأغلبية من المعلمين إلا أن الجميع سواسية في التعامل، وهدفهم واحد وهو الأخذ بأيد الطلاب إلى نور المعرفة التي تسبقها التربية، ورغم قلة الإمكانات في ذلك الوقت وخصوصاً في المباني المدرسية التي كانت في بداياتها مبانٍ طينية وأغلبها مستأجرة إضافة إلى شح الوسائل التعليمية الحديثة إلا أن معلمي ذلك الزمن تمكنوا من تخريج دفعات من الطلاب المتميزين الذين ارتقوا سلم الوظائف على اختلاف درجاتها في جميع الوزارات والمصالح الحكومية وغيرها، وتميزوا بحسن خطهم وثقافتهم العالية، وظل هؤلاء الطلاب يكنون لمعلميهم التقدير والاحترام رغم مغادرة مقاعد الدراسة والاندماج في المجتمع فطول الزمن لم يمنع من تقديم الشكر والثناء عليهم في كل لقاء، وفي عصرنا الحاضر لا زال المعلم يحظى بمكانته في المجتمع ويحظى بالتقدير والاحترام على الرغم من التغيرات التي طالت جميع أنماط الحياة، وما صاحبها من تطوير في العملية التربوية والتعليمية وما صدر من تنظيمات جديدة، إضافة إلى التطوير المستمر في المناهج وطرق التدريس والتجهيزات المدرسية والمباني، مما يعكس مدى اهتمام الدولة منذ البداية بالتعليم للوصول به إلى أعلى مستوى . مباني الطين كانت أغلب المدارس في بداية تأسيسها مبانٍ طينية والكثير منها مستأجرة وبالكاد تكفي فصولها الطلاب فليس بها ملاعب لمزاولة الأنشطة أو قاعات للاختبارات أو مزاولة الأنشطة الطلابية، حيث كانت تحوي إدارة المدرسة وغرفة المعلمين والفصول الدراسية بالإضافة إلى مستودع وعدد قليل من دورات المياه، كما كان الأثاث متواضعاً جداً لا يتعدى عدداً من طاولات وكراسٍ متصلة تفي لاثنين أو ثلاثة من الطلاب وسبورات وشيئاً قليلاً من وسائل الإيضاح كالخرائط والأدوات الهندسية ولم يكن هناك كهرباء أو أجهزة تعمل على الكهرباء فعلى سبيل المثال كان يتم تبريد الماء بواسطة (الزير) وهو إناء فخاري يصب فيه الماء ويوضع في الظل أو في فناء المدرسة فيبرد الماء ويشرب منه الطلاب جميعاً بإناء واحد يوضع على غطائه الدائري المصنوع من الخشب، وبعد ذلك تطورت المدارس وحلت المباني المسلحة محل هذه المباني الطينية وتجدد الأثاث وبات يوزع على الطلاب الألبسة الرياضية والكشفية وفي وقت لاحق تم توزيع وجبات مدرسية على الطلاب وبات من درسوا تلك الفترة التي صاحبت توزيع الوجبات المدرسية يتذكرون طعمها الرائع والتي كانت مصدر جذب للمدرسة رغم ما كانوا يعانونه من ضرب مبرح من قبل المعلمين عند أي خطأ أو تكاسل في الدراسة أو حل الواجبات المدرسية. مكانة المعلم كان المعلم فيما مضى ولا يزال يتبوأ مكانة مرموقة في المجتمع وخصوصاً في القرى في بدايات التعليم لا تضاهيها مكانة سوى قاضي البلدة وأميرها فقد كان المقدم في كل شيء عند الأهالي فما من دعوة لأي مناسبة إلا ويكون المعلمون أول المدعوين إليها، وذلك عرفاناً منهم للمعلم وتقديراً له لما يقدمه من عمل جليل، كيف لا وهو ينير عقول أبنائهم بنور المعرفة والثقافة، فقد كان المعلم حريصاً كل الحرص على الطلاب فتراه يقدم لهم التوجيه والنصح إضافة إلى التعليم بل ويتابع أداءهم المدرسي وواجباتهم في ظل تفشي الأمية بين أولياء الأمور في تلك الفترة من الزمن، ومع تعاقب السنين وتطور أساليب التعليم والانفتاح المعرفي والتقدم التكنولوجي فلا زال المعلم يحظى بمكانته في المجتمع إيماناً بدوره الريادي في التعليم والتوجيه والنصح. كثيرة هي المواقف التي سطرتها أيد المعلمين خلال مشوارهم الطويل وظلت شاهدة على مدى حبهم لهذه المهنة التي تحمل التضحية والصبر من أجل إعداد جيل من المتعلمين ليشقوا طريقهم في الحياة مستنيرين بما تعلموه، ففي ذكريات جيل الأمس من المعلمين نجد أن الكثيرين منهم رغم قسوة الحياة والجدية التي تضرب أطنابها في التعامل مع الطلبة منذ دخولهم عتبات المدارس إلا أنهم كانت لهم بصمات واضحة في التعامل مع كافة حالات الطلاب كالطلبة اليتامى الذين كانوا بحاجة إلى مسح دمعتهم في اليوم الأول في الدراسة بل متابعتهم في جميع صفوف المرحلة الابتدائية ومحاولة تعويضهم عن حنان فقدان الأب وذلك بالتشجيع والمتابعة المستمرة، وكذلك تشجيع الطلبة الضعفاء بتقديم المكافآت التشجيعية لهم على الرغم من ندرتها، فقد كانت جل المكافآت معنوية كطلبهم من أقرانهم الطلاب التصفيق لهم أو الإشادة بهم في لوحات الشرف التي تعلق في ساحات المدرسة للطلبة المتفوقين، كما كان البعض من المعلمين يقدم مكافآت مالية كقطع النقود المعدنية من فئات القرش والقرشين والأربعة قروش والتي كانت لها قيمة في ذلك الوقت من الزمن الماضي منذ أكثر من نصف قرن، إضافة إلى تفقد أحوال الطلاب المادية وخصوصاً من الفقراء والمعوزين حيث يعمد الكثير من المعلمين إلى توزيع ما يحتاجه هؤلاء الطلاب من أدوات مدرسية أو أحذية وملابس إلى توزيعها لهم بحيلة تربوية تتمثل في منحهم إياها كجوائز تحفيزية لهم كي لا تنكسر خواطرهم أو يحرجوا من زملائهم الطلاب، واستمراراً لهذه المواقف الخيرة المتعاقبة على مر الأجيال لا زلنا نطالع بين الفينة والأخرى عبر وسائل الإعلام الحالية العديد من المواقف التي تبرز هذا الجانب النبيل من شخصية المعلم في التفاني في بذل كل ما في الوسع من أجل أداء رسالة التعليم على أكمل وجه ومن أجملها موقف معلم رائع احتوى بعطفه وحنانه طالباً يتيم اكتشف مدى ألمه في فقد والده قبل دخوله للمدرسة بأشهر حيث كان المعلم في فصله يقوم بالتجول بين الطلاب لتصويب حل تدريب كتابي فتوقف عند أحد الطلاب ليصوب له أخطاءه فرأى أحد الطلاب يعبث ب ( مسبحة ) كانت تتدلى من جيبه فلم يلتفت إليه ولكن نظر نظرة تحت يده فشاهد أحد الطلاب يداعب ( المسبحة ) ويبتسم بهيام غريب، فقام بإاخرج ( السبحة ) ووضعها بحجره دون أن يلتفت، ثم اتجه للسبورة وأعاد الشرح ثم طلب من الصغار التجهز للفسحة، ثم لمح الصغير واذا به قد وضع (المسبحة فوق الطاولة بين يديه يدعكها بقوة ثم يشمّها، وبعد أن قرع الجرس وخرج الأطفال ظل الطفل باقياً في مكانه فتشاغل عنه، فتقدم الطفل إليه وقال: ( يبه ) كلمة بالعامية تعني ( أبي ) ثم توقف عن الكلام برهة فقال: أستاذ سبحتك ).. فمد المعلم يده لأخذها فمسك الطفل يده وقبّلها وقال: ( أنا أحبك يا أستاذ ) فنزل المعلم جاثيا وقبّل رأسه، وخرج من الصف، واستفهامات كثيرة خرجت وفي أحد أروقة المدرسة قابل الوكيل وسأله عن ملفات الطلاب بالصف، فلما وصل لملف الطفل تبين له أن والده قد توفي في حادث قبل المدرسة بشهر، وقد كان الطفل يتمنى أن يشاركه والده يومه الدراسي الأول فعلم أن هذا الطفل قد أراده أباً بديلاً، فقام لاحقاً بتعزيز هذه الرغبة لدى الطفل بالملاطفة والسلام وصار يقف في الطابور بجانب هذا الطفل ويتابعه طوال اليوم، نجح للصف الثاني وباقي صفوف المدرسة وهو يلجأ إلي دون غيري من المعلمين عند كل مشكلة تواجهه وفي أحيان كثيرة كان يبكي فأقوم بأخذ حقه والدفاع عنه، وأنهى هذا الطالب المرحلة الابتدائية وتدرج في مراحل الدراسة وهو الآن في آخر سنة دراسية بالجامعة ولا يزال يتذكر ما صنعته له ويتعهدني بالزيارة ويثني علي بالدعاء في كل محفل يحضره، كما يحفل ميدان التعليم اليوم بالكثير من المعلمين الذين قدموا الكثير من التضحيات من أجل أداء رسالة التعليم على أكمل وجه باذلين من أوقاتهم وأموالهم الكثير حيث يقومون بأعمال أكثر مما هو مطلوب منهم رغبة في الأجر والثواب فعلى سبيل المثال هناك من يعطي الطلاب جوائز تحفيزية قيمة عند التفوق في الدروس أثناء الحصص وكذلك تشجيعاً للطلبة ضعيفي المستوى عند تحسن أدائهم، كما أن بعض المعلمين يعطي دروس تقوية بدون مقابل وذلك قبل بدء الطابور الصباحي بقليل حيث يحضر إلى المدرسة قبل الطابور ويعطي الطلاب الذين هم بحاجة إلى تقوية في عدد من المواد بإشراف من مدير المدرسة، كما يقوم العديد من المدرسين بتعهد الطلبة الصغار وخصوصاً في الصفوف الأولية فتراه يصلح من هندامهم ويتفقدهم أثناء الطابور الصباحي حتى إن أحدهم لينحني ليصلح رباط حذاء طفل رحمة ورأفة بهذا الطالب الصغير وخصوصاً من كان يتيماً أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى دعم المعلمين للطلاب أثاء تأدية الاختبارات وتقديم الماء والحلوى والمشروبات الساخنة لهم لتهيئتهم نفسياً ولتخفيف رهبة الاختبارات في نفوسهم. تطور ورعاية يزخر الميدان التربوي بكوكبة من المعلمين المتميزين الذين يتم تكريمهم في كل عام، وذلك سعياً من وزارة التعليم بالوصول بالمعلم إلى أفضل درجات التميز في جميع المجالات، ويحظى المعلم المتميز والقدوة بالتقدير ليس في مدرسته ومجال عمله بل من جميع فئات المجتمع بأجمعه، ولا يكتمل دور المعلم إلا بتكاتف الجميع معه وخصوصاً تعاون البيت مع المدرسة وتواصلها المستمر للوصول إلى تفوق الطالب دراسياً وأخلاقياً، وقد دأبت وزارة التعليم منذ تأسيسها على التطوير المستمر والذي من ثمراته ما نشاهده من مبانٍ مدرسية نموذجية ومناهج متطورة وتجهيزات مدرسية وتقنية تواكب العصر الذي نعيش فيه مما خلق بيئة تعليمية متميزة قادرة على خلق روح التنافس والتميز من أجل تخريج كوكبة من الطلبة المتميزين المبدعين في كافة مجالات المعرفة، واستمراراً لهذا الجهد فإن من الضروري أن يشهد هذا التطور مشاركة المعلمين أنفسهم في هذا المجال وذلك من خلال الاستنارة بآرائهم في عمليات التطوير سواءً في تطوير المناهج أو طرق التدريس والتقويم وكل ما يهم المدرس حيث يعتبر هذا العمل تكاملياً، فالحاجة باتت ملحة لمعرفة ماذا يريد العاملون في الميدان وماذا يريد الطالب من أجل أن نجعل من المدرسة محبوبة لدى الجميع لمعالجة بعض السلوكيات التي تبرز بين الحين والآخر كمسألة تكرار غياب الطلاب بغير مبرر وتغير بعض أنماط سلوكهم، وعزوف الكفاءات من المعلمين عن العمل بطلب التقاعد المبكر، وغيرها من المستجدات التي تعترض مسيرة العملية التعليمية والتربوية. أحد الفصول الدراسية في بدايات التعليم النظامي التغذية المدرسية زمان يحظى المعلم منذ القدم بمكانة اجتماعية وكان أول المدعوين للمناسبات مبنى مدرسة «غسلة» بالقرائن من المباني الطينية القديمة تأسست عام 1371 ه تشهد الأنشطة الطلابية اهتماماً وتطويراً مستمراً التجهيزات المدرسية الحديثة ساهمت في تطوير التعليم مبنى مدرسي حديث