لطالما ارتبط اسم الفيلسوف الفرنسي، الجزائري المولد، ألبير كامو بروايته القصيرة "الغريب"، كما ان روايته الأخرى "الطاعون" أخذت نصيباً وصدًى يقارب ما حازته الأولى، أما مقالاته المجموعة في "أسطورة سيزيف" و"الانسان المتمرد" جعلت كامو من أكثر المفكرين تأثيراً في القرن المنصرم. ولكن آخر رواياته وتحفة أعماله السوداوية، "السقوط"، ما زالت تركن في الظل، بالرغم من نضوجها وتماسك بُناها الفلسفية بشكل متين. في "السقوط"، يروي كامو على لسان جون بابتست كليمنس -بعد أن يلتقيك في أحد بارات أمستردام- قصة المحامي الباريسي الناجح، الذي يتبنى قضايا أصحاب المِحن والمعدمين، والذي يتودد إلى الضعفاء والمهمشين. يسرد المحامي المحترم بين زملائه والطبقة البرجوازية وبقية المجتمع، كيفية وأسباب سقوطه من أعلى الدرجات الاجتماعية إلى أحطها كما لو يستحضر سقوط الانسان من جنة عدن. وعبر هذا السقوط الذي يشكل الثيمة الرئيسة للرواية، يُسند كامو روايته عليها ليتعمق في فلسفته وثيمات أخرى كالحكم على الآخرين والالتزام والنفاق وغيرها. يبدأ المحامي بسرد حكاية نجاحه، ذلك النجاح التقليدي المتمثل فيما صاغه المجتمع، الناس، السلطة، أو أي مؤثر خارجي ليس نابعاً من الفرد ذاته. والإشكال في هذه الفكرة ليس في إقصائها للفرد على سبيل الجماعة، وإنما في افتراضها لوجود هذا المعيار الجمعي الذي لم يكن ليوجد إلا بوجود "معنى" موضوعي لهذه الحياة، وهذا ما تتفق الفلسفات الوجودية على رفضه بالرغم من اختلافها مع بعضها البعض، ف"الوجوديات" تتفق على أن "الوجود يسبق المعنى"، وعليه فإن جوهر الحياة ليس أمراً يستدعي البحث عنه، وإنما هو شيء يخلقه الفرد لذاته من أجل عيش حياة أصيلة Authentic وليست عبثية Absurd. وقد تجلت هذه الفكرة في أكثر من موضع، منها حوار جون كليمنس الافتراضي: "هل تريد حياة سوية مثل الجميع؟ ستجيب نعم بالطبع، كيف لك أن ترفض ذلك. حسناً سنعطيك ذلك، هذه وظيفة، وهذه عائلة، وهذه عطل وأوقات فراغ منتظمة. ولكنني لست عادلاً هكذا، ففي النهاية هذه طريقتي للحياة السوية. القضية دائماً مَن يقلد الآخر". ينطلق جون كليمنس من هذه الفكرة ليسترسل بعد ذلك في ذكر عواقبها، مشيراً لنفسه وتجربته الحياتية "الناجحة" في باريس كمثال وضحية لهذه العبثية، إذ اضطره المجتمع لأن يكون ممثلاً، يساعد المكفوفين ليعبروا الشارع ثم يرفع لهم قبعته عندما يشكروه وكأنهم يرونه، وغيرها من المواقف اليومية التي تشكل حياته والتي منها يكتشف أنه يعيش حالة متقدمة من التظاهر بالكذب والرياء، بل تتعدى ذلك لتصل إلى "غياب الذهن" Absent-mindedness والتي هي ضرب من ضروب الاستحمار، وتسليم العقل لمختلف التنميطات الاجتماعية ولكن ذلك يخص من هم في الجانب الصحيح، والذين يستندون على ذلك الحس القانوني الزائف الذي يعزز الشعور بالرضا واحترام الذات. أما الفاشل والمجرم والممتلئ بالتصنيفات المجتمعية القبيحة، فأمره أسوأ، فكم من جريمة اُرتكبت فقط لأن صاحبها لم يحتمل أن يبقى في الجانب الخاطئ والأدنى على الدوام. وذلك يحرمه أي شكل من أشكال التكريم والاحتفاء بأي سلوك صالح يقوم به، مما يدفعه لمواصلة أسلوب حياته الذي نمطه المجتمع بأنه خاطئ وألزمه به وفِي كلا الحالتين نرى بأن ما يدمر الفرد هو التلازم بين أمرين كل منهما يحرك الآخر: الالتزام والتعهد بما ينمطه ويقولبه المجتمع، والخوف من إطلاق الأحكام علينا في حال الخروج عن هذا القالب. والحياة المتذبذبة بين هاتين القوتين هي حياة هشة وعرضة للسقوط دائماً. فكما ذكر المحامي جون أن أحد أسباب سقوطه هي تلك الحادثة البسيطة عند إشارة المرور حين طلب من أحدهم -بلطف- أن يبتعد عن الطريق بعد أن تعطلت سيارته كي يدع البقية يمضون، فاشتاط غضباً وطرح المحامي أرضاً وذهب، تاركاً جون خلفه مثقلاً بالإهانة والحرج بعد أن تهشمت صورته المجتمعية التي ظل يلمعها لسنوات، خوفاً وهروباً من أحكام الناس الدائمة والتي لم تنعقد جلسات النطق بها أبداً ولذلك يجد جون كليمنس فكرة يوم القيامة أو "يوم الحساب" مسألة لا ينبغي لها أن تتسبب بأي ذعر لأي أحد، فالأحكام تُطلق عليك بشكل دائم ومستمر يومياً ومن العشرات أو حتى المئات عبر هذين العنصرين، الالتزام والأحكام، وبعد حادثة الجسر وضحكات الامرأة التي قفزت في نهر السين وصار يسمع جون ضحكاتها المطمئنة تخبو في اتجاه النهر، يستنتج جون كليمنس أن المسألة الوحيدة الجديرة بالتفكير هي الانتحار، فنحن دائماً أكثر إنصافاً وكرماً تجاه الموتى والسبب أننا لا نملك أي التزام تجاههم، وأن في رحيلهم يحررونا من جميع التزاماتنا الاجتماعية والأخلاقية وغيرها تجاههم. ولكن هذا الخيار في غاية الصعوبة وباهظ الثمن، فالانتحار وإن كان كفيلاً بإثبات جميع حججك وصدق سريرتك التي لم تؤخذ بمحمل الجد في حياتك، فإنك لن تكون شاهداً على ذلك بعد موتك، وإن كانت هناك احتمالات بوجود روح هائمة بعد موتك قد تكون شاهدة على ردود أفعال من كانوا حولك، وحاضرة في جنازتك، إلا أنها تبقى مجرد شكوك. ومن أجل إنهاء هذا الشك فلا حل سوى إعدام الوجود