اهتم الطب الحديث بالتأثيرات الصحية للصوم وظهر اصطلاح طبي جديد يعرف بالصوم العلاجي والذي أصبح ممارسة صحية في الغرب. فقد أصبح الصوم العلاجي وإزالة السموم، طريقة علاجية معروفة يتداوى بها الكثير من المرضى. وأنشئت لذلك مراكز متخصصة في مختلف دول العالم وخاصة في ألمانيا. ويسافر الكثير من العرب وخاصة من منطقة الخليج لمنتجعات صحية في ألمانيا للعلاج بالصيام وتنقيص السعرات الحرارية المتناولة. وسأذكر هنا قصة قصيرة لباحث غربي هو بروفيسور كولين سوليفان. وهو طبيب وعالم أسترالي عاملي، قام باختراع جهاز السيباب (التنفس المساعد) الذي يستخدم لعلاج توقف التنفس اثناء النوم عام 1981. وهو يتواصل معي بشكل دوري لسؤالي عن آخر أبحاثي في علاقة الصوم بالنوم والصحة. وقد قابلته مؤخرا في مؤتمر طبي في تايوان، فذكر لي أنه وزوجته يمارسون الصوم الإسلامي أي من الفجر حتى المساء عدة ايام في الاسبوع منذ عدة سنوات بسبب الآثار الصحية الجيدة للصوم. والقصص المماثلة التي نقرأها لعلماء غربيين يمارسون الصوم المتقطع عديدة. وخلال عملي البحثي عن تأثيرات الصوم على النوم والتغيرات الهرمونية والالتهابية، وجدت أول توثيق لمسمى الصيام العلاجي نشر عام 1908 في بحث بعنوان «الصيام لعلاج المرض» للباحثة ليندا هازارد. والصيام ممارسة معروفة منذ قديم الأزل وقد مارسها الإنسان من مختلف الثقافات. الصيام في الحضارات المختلفة وقد مارس الناس الصوم منذ قدم التاريخ فالصوم يوجد في عدد كبير من الثقافات والأديان وإن كانت تفاصيل الصيام تختلف بين الثقافات المختلفة. ومرت البشرية بمجاعات عديدة، نقص فيها تناول الطعام ومع ذلك تعايش الإنسان مع فترات المجاعة بشكل جيد. ويمارس بعض الناس الحمية الغذائية وتقليل كميات الأكل المتناولة بحثا عن الصحة. لذلك يعتقد الكثير من الباحثين أن جسم الإنسان مخلوق بطريقة يستطيع معها تحمل المجاعات أكثر من قدرته على تحمل الإفراط في تناول الطعام. ولعل هذا يفسر زيادة الأمراض وظهور الكثير من الأمراض الجديدة التي تصاحب الإفراط في الطعام في الأزمنة القريبة، وقد لاحظ الناس على مر التاريخ أن للصوم فوائد صحية مختلفة. فقد صح عن سيد الخلق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت على الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس» أخرجه الثلاثة والحاكم وصححه. وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها. وقيل في الحكمة «المعدة بيت الداء». وقد أطرى الحكماء في اليونان القديمة فضائل الصيام، فقد استخدم هيبوقراط الصوم في علاج الأمراض المزمنة والحادة. الأبحاث العلمية التي تدعم التأثيرات الصحية الحميدة للصوم أ- تأثيرات الصوم المتقطع على حيوانات التجارب: وبسبب التأثيرات الصحية للصوم، ظهر في الغرب ما يعرف بالصوم العلاجي المعدل، وهو باختصار تقليل في السعرات الحرارية المتناولة إلى حوالي 800سعر حراري لعدة أيام مع شرب 2-3 ليترات من السوائل يوميا وبعد ذلك إدخال تدريجي لنظام غذائي محدد تحت إشراف طبي. والصوم الإسلامي في رمضان هو نوع مميز من الصيام يعرف علميا بالصوم المتقطع لأن ال 24 ساعة تقسم تقريبا بين الصوم والإفطار. وهو يختلف عن الصوم التجريبي الذي يمارس في بعض الأبحاث التي تدرس تأثير الصوم على الصحة اختلافا كبيرا، فالصائم في رمضان يمتنع عن الأكل والشرب في ساعات النهار فقط، ويتغير نظام أكله بشكل مفاجئ من النهار إلى الليل فتزداد عمليات الأيض والحرق الحراري خلال الليل، كما أن صوم رمضان يمتد لمدة شهر مما قد ينتج عنه نوع من التأقلم مع نظام الصوم. وقد تنبه العلماء منذ مدة طويلة لفوائد الصوم المتقطع. فهناك الكثير من الأبحاث التي درست فوائد الصوم المتقطع على حيوانات التجارب وحديثاً بدأنا وبدأ غيرنا من الباحثين في دراسة التأثيرات الصحية للصوم المتقطع على الإنسان. وسأستعرض باختصار بعض الفوائد التي أظهرتها التجارب التي درست تأثير الصوم المتقطع على حيوانات التجارب. فقد بينت الدراسات أن تطبيق الصوم المتقطع على الفئران قلل من مستوى ضغط الدم وسرعة دقات القلب وتقلب دقات القلب وهو مقياس طبي يعكس صحة القلب. كذلك أظهرت التجارب أن قدرة الأعصاب المركزية في الدماغ على مقاومة السموم الخارجية وعوامل الأكسدة ومن ثم التحلل كانت أعلى عند الفئران التي طبق عليها نظام الصوم المتقطع. وأظهرت تجارب أخرى على الفئران والقرود أن الصوم المتقطع يزيد من حساسية الجسم للأنسولين. كما بينت دراسة قام بها المركز الوطني للشيخوخة بالولايات المتحدة أن الصوم المتقطع وتقليل السعرات الحرارية المستهلكة زاد من عمر القرود التي طبق عليها نظام الصوم المتقطع مقارنة بالقرود التي تناولت الطعام متى شاءت. ويعتقد الباحثون أن الصوم المتقطع وتقليل السعرات الحرارية المستهلكة يسبب نوعا من الإجهاد الخفيف على خلايا الجهاز العصبي والدماغ والقلب والجهاز الدوري، والتي بدورها تستجيب لهذا الإجهاد المعتدل من خلال تعزيز قدرتها على مقاومة إجهاد أشد. فعلى سبيل المثال، أظهرت تجارب أخرى أن أدمغة الفئران التي طبق عليها نظام الصوم المتقطع كانت أكثر مقاومة للتسمم الناتج عن عوامل الأكسدة والسموم الناتجة عن عمليات الأيض والتمثيل الضوئي والسموم الخارجية. ب- تأثير الصوم على عمر الخلية: ظهر حديثا العديد من الدراسات العلمية الرصينة التي درست تأثير الصوم على موت الخلايا المبرمج (Apoptosis). والسؤال هنا هل موت الخلايا المبرمج جيد؟ للتوضيح للقارئ هناك نوعان أساسيان من موت الخلايا موت الخلايا المبرمج وموت الخلايا النخري (Necrosis). النوع الثاني سيئ وهو ما يحدث على سبيل المثال في جلطات القلب والدماغ. أما النوم الأول فهو مهم لوظائف الأعضاء ولطول حياة الإنسان بمشيئة الله. فهو يسمح للجسم بإزالة الخلايا القديمة وتعويضها بجديدة، كما يسمح للجسم بالقضاء على الخلايا المريضة التي بها عطب في الحمض النووي والخلايا السرطانية ويقلل من الأمراض المناعية الذاتية. * فما تأثير الصوم على موت الخلايا المبرمج؟ أظهرت الأبحاث أهمية الصوم ودوره في الاستجابات الخلوية التكيفية والتي تقلل من أضرار الأكسدة والالتهاب، وتحسين استقلاب الطاقة وتعزيز الحماية الخلوية. كما أظهر مجمل الدراسات أن الصيام يطيل عمر الخلايا بمشيئة الله من خلال إعادة برمجة مسارات التمثيل الغذائي ومقاومة الإجهاد. وأظهرت الأبحاث الحديثة أن الصيام يحمي الفئران من تلف الحمض النووي القاتل من خلال تشجيع الخلايا الجذعية في الأمعاء الدقيقة على قيد البقاء الحياة. وفي دراسات أخرى على في القوارض، تبين أن الصوم المتقطع أو الصيام الدوري يحمي من مرض السكري والسرطان وأمراض القلب والتنكس العصبي (أمراض تلف خلايا المخ والأعصاب)، بينما أظهرت أن الصوم عند البشر يساعد على تقليل السمنة وارتفاع ضغط الدم والربو والتهاب المفاصل الروماتويدي. ج- تأثير الصيام في رمضان: أما بالنسبة للصوم في رمضان فإن الأبحاث ما زالت محدودة والنتائج متفاوتة بين دراسات إيجابية واخرى سلبية لم تظهر فوائد واضحة. والسبب في ذلك في رأيي يعود إلى أن نظام الصوم في حيوانات التجارب يختلف عن نمط الصوم والحياة في رمضان. ففي حين يصاحب الصوم المتقطع عند الحيوانات نقص في السعرات الحرارية المستهلكة خلال ال 24 ساعة، وكذلك انتظام في نظام النوم والاستيقاظ والنشاط الحركي الجسدي، نجد أن الصوم خلال رمضان يصاحبه عادة إفراط في الأكل وتناول السعرات الحرارية بكميات كبيرة جداً في الليل ونقص في التمارين والنشاط الجسدي وتغير كبير في نمط النوم حيث يسود السهر ليلا والنوم نهارا، مما قد يعاكس التأثيرات الحميدة للصوم المتقطع. ولكن الأبحاث الحديثة، تبين الفوائد الجيدة للصوم في رمضان. ففي دراسة تحليلية منهجية للأبحاث التي درست تأثير الصيام على الصحة نشرت في مجلة (Am J Clin Nutr.)، وجد الباحثون أن الصوم قلل من خطر الإصابة بجلطات القلب والسكري وأنقص الوزن ومستوى الدهون في الدم. ولكن يجب التذكير أنه للحصول على هذه النتائج يجب توفر شرطين، الأول عدم الإفراط في الطعام ليلا، والثاني الحصول على نوم جيد بالليل. د. تأثير الصيام على الاكتئاب وجد الكثير من الباحثين أن الصيام يزيد اليقظة وشعور الشخص بالراحة والنشوة. وأظهرت نتائج الدراسات الأولية أن الصوم قد يحسن النفسية ويقلل من الاكتئاب. فقد أظهرت دراسة أجريت على52 شخصا مصابا بألم مزمن أن الصيام التجريبي حسَّن كثيرا من أعراض الاكتئاب والتوتر عند 80% من المشاركين. وفي دراسة قام بها باحثون خلال شهر رمضان على 25 صائماً مصابين باضطراب ثنائي القطب وكانوا على عقار الثاليوم، أن الصيام حسن كثيرا من أعراض الاكتئاب والهوس عند مجموعة الدراسة بدون أي تغير في مستوى دواء الثاليوم في الدم. الأبحاث السابقة تظهر فرضيات جديدة لفوائد كبيرة للصيام لم تدرس بشكل جيد خلال صيام شهر رمضان وهي تفتح آفاقا جديدة للباحثين لدراسة هذه التغيرات خلال شهر رمضان. ه- تأثير الصيام على تخفيف الألم وتحسن المزاج يؤثر الصوم على بعض النواقل العصبية في المخ. فقد أظهرت الدراسات التي أجريت على فئران التجارب أن الصوم التجريبي يزيد من مستوى التريبتوفان والسيروتونين في المخ وهما ناقلان عصبيان مهمان، ويعتقد الباحثون أن زيادتهما قد تكون سببا لنقص الشعور بألم صداع الشقيقة مع الصيام. وفي دراسة استكشافية أجريت عام 2006 أجريت على 55 شخصا حصلوا على غذاء يحتوي 300 سعر حراري يوميا لمدة ثمانية أيام، وجد الباحثون تحسنا كبيرا في مزاج المشاركين بعد خمسة ايام من الصيام. كما أظهرت بعض الدراسات تحسنا في النوم مع الصيام التجريبي. ويعتقد أن الصيام يزيد إفراز مادة الإندورفين وهي بيبتايد أفيوني يعمل كناقل عصبي في الدماغ. حيث وجدت الأبحاث زيادة في هذه المادة بعد 5-10 أيام من الصيام التجريبي عند الإنسان. ووجدت دراسة زيادة كبيرة في هذه المواد الأفيونية في مخ فئران التجارب تصل إلى خمسة اضعاف بعد24-48 ساعة من الصيام. وهذا الناقل العصبي يخفف الشعور بالألم ويحسن المزاج. كما وجدت أكثر من دراسة أن الصوم المتقطع مثل صيام رمضان يزيد من إفراز مادة في الدماغ تعرف بالعامل العصبي المشتق من الدماغ (BDNF)والتي لها وظائف عدة منها التحكم في مادة السيروتونين وتحسين القدرات الذهنية وزيادة مقاومة الدماغ للهرم والتقدم في العمر. كما يعتقد أن زيادة مادة الكيتون في الجسم الناتجة عن استهلاك دهون الجسم كمصدر للطاقة قد تكون أحد أسباب نقص الألم وتحسن المزاج خلال الصوم التجريبي. وفي الختام، تظهر الأبحاث أن الحصول على الفوائد الصحية للصيام يجب أن تكون مقرونة بتناول غذاء صحي متوازن في الليل وعدم الإفراط في تناول الطعام غير الصحي عالي السعرات، وكذلك وجوب الحصول على نوم جيد والاستمرار في ممارسة الرياضة حتى تتخلص أجسامهم من السموم وتستفيد من الجانب الصحي للصوم.