تغير كل شيء في حياته، ذلك الانشغال الذي كان يسرقه من أسرته غاب بعيداً، هاتفه الخلوي الذي لم يكن يهدأ من الرنين صباحاً ومساء خف كثيراً، تلك الوجوه التي كانت تتردد عليه وتتقرب منه إدارات ظهرها له واختفت دون أي وداع أو التفاتة، تلك الحياة الصاخبة بالأحداث والقرارات المهمة ورغبة الآخرين في إرضائه بشكل مستمر غابت وغادرت مع العلاقات الكبيرة التي كانت تملأ حياته، وبعد أن ترجل من منصبه كأن هناك تآمراً جماعياً ممن حوله على أن يغادروا مع ذلك المقعد الذي لم يعد له ولم يعد بمقدوره أن يستعيده، فغابت العلاقات التي كم ادعت الوفاء لزمن طويل يساوي تماماً مقدار الزمن الذي أنفقه في المنصب وهو ذلك الرجل المشهور الذي يقبع تحت الأضواء والسلطة والقرار، إلاّ أنه اليوم يعود إلى صفوف المواطنين العاديين الذين مكانهم مساوي للجميع فيجد نفسه عند نقطة البداية، وأمام أناس لم يعودوا موجودين، وصداقات انتهت بانتهاء المنصب، في تلك اللحظات يعود لنفسه، يشعر بالأسف أو ربما بالتأمل لحياته الطويلة التي كان يظن بأنه من خلالها حصد الصداقات والعلاقات الحقيقية ولكنه يفاجأ بأنها جميعاً صداقات منصب، وبأن الوقت لم يسعفه بأن يلاحظ تلك الحقيقة التي كانت أمام عينيه لفترة طويلة دون أن يتوقف لديها، حتى يدخل اليوم العزلة التي لطالما كرهها، وخاف منها يوماً، لكن لا أحد يتذكره سوى من عرفه قبل مسؤولياته تلك، فلماذا تغيب بعض الصداقات والعلاقات بعد غياب المنصب؟، وماذا يمكن أن يشعر ويفعل من وجد نفسه مهملاً دون علاقات حقيقية مخلصة ووفية بعد أن يترجل عن منصبه ومن رأس هرم السلطة؟، وهل تلك العلاقات هي علاقات المصلحة أم علاقات الوقت الذي ولى فولت معه تلك العلاقات؟. هالة المنصب وقال د.أبوبكر باقادر –أستاذ علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة سابقاً-: من الضروري على كل من يتولى منصب أن لا يظن بأن في ذلك المكان صفات شخصية خارقة منه لا توجد بغيره، أو أنها "شطارة" لديه لا توجد عند سواه، فيستمرأ الوضع ويظن بأن الآخرين يحبونه لذاته، بخلاف الشخص حينما يكون منصفاً وكريماً فإنه سيتمكن بالحفاظ على ذكرى جميلة في عقول من عمل معهم بعد مغادرته ذلك المنصب، فبعضهم سيكون صديقاً شخصياً مثل الأقارب والمقربين وبعضهم سيكون صديق مصلحة وسيترك ذلك المسؤول بعد مغادرته، وسيحصل على ذات الاهتمام الشخص الذي سيحل محله، مُشدداً على ضرورة أن يدرك من يتولى المنصب ويكون في موضع الشهرة وتسليط الضوء أن للمنصب "هالة"، حيث يقدم فرصاً وهي غير مستمرة، فحينما يكون الشخص في المنصب عليه أن يحسب حساب ما بعده، وأن يسعى أن تكون علاقته مع الناس ليس قدرها محسوبيات، إنما إمكانياته وقدراته هي التي تربطه مع الآخرين وهذا سيجعله ككل الناس فأصدقاؤه المخلصون سيكونون قليلين والمعارف سيكونون كثيرين، ولكن الفرق بأنه في حال وجوده سيحاول البعض أن يشعره بأنه صديق وقصده أن يحصل على المميزات التي يمكن أن يحصل عليها، فإذا أدرك ذلك لم يعد ناقداً حينما يبتعد عنه الناس؛ لأنه لم يحقق مقاصدهم في التواصل معه، ولكن من أصبحوا أصدقاءه فإنهم سيحافظون على تلك العلاقة ولو كانت علاقة بذات القوة أثناء وجوده في المنصب. عزة نفس وأوضح د.هاني الغامدي -محلل نفسي في القضايا الأسرية والمجتمعية- أن الإنسان حينما يكون في موضع مختلف عمّا يكون عليه بقية البشر، مثل ما هم عليه المشاهير أو من هم مسلط عليهم الأضواء لفترة من الزمن إنما ذلك يقدم لصاحبه عزة نفس، والسند للأنا بشكل كبير، وهذا أمر فطري بحت لا يمكن أن تتجاوزه النفوس إلاّ أن تتأثر بشكل مباشر، ولكن الاشكالية حينما يخرج هذا الشخص من دائرة الشهرة أو المسؤولية مثله مثل بعض المتقاعدين في المراكز العليا في بعض الوظائف، أو بعض المسؤولين الكبار كالوزراء وبالتالي حينما يأتي موعد الانسحاب أو الخروج من هذه الدائرة فنجد بأن هذا الشخص سيتأثر بشكل مباشر لما سيجده من حياة جديدة، ومن آثار تلك الحالة الاحساس بالانعزال والبعد الكامل عن الأدوات التي كانت موجودة بشكل مباشر داخل نفسيته، كأدوات الصلاحية، أو أدوات لفت النظر، والأدوات البراقة، أو بعض مما كان عليه مما يفعله كجلوسه بشكل متفرد مع بعض الشخصيات المهمة بشكل رسمي، أو تناقل أخباره، أو بعض الأمور التي يكون فيها بعض المميزات خاصة بهذا المسؤول أو ذاك وبالتالي هو يتأثر بالابتعاد عن جميع هذه الأمور. تجربة جديدة وأكد د.الغامدي على أن هناك من قد يعوض هذه الأمور بأن يخرج من الدائرة إلى تجربة جديدة، والبعض يبتعد لفترة إجازة معينة، والبعض الآخر يعتمد عليه على ما كان من بعض العلاقات فيتردد على بعض الأماكن إمّا لأمور تطوعية أو بعض المشاركات بحيث تعطيه العزاء نفسياً لما فقده في تلك المكانة في وقت سابق، وهناك فئة بسيطة يؤثر عليها نوع من العرض الاكتئابي أو ربما يتحول البعض إلى العرض الاكتئابي من خلال فقدانهم الكامل لما كانوا عليه في ذلك المنصب، مبيناً أن مثل هؤلاء ليس لديهم حسن ظن بالله أولاً ولديهم اعتداد كامل بقيمة الأنا الخاصة بهم، وبالتالي لا يريدون بأي حال من الأحوال أن يترجلوا عمّا رزقهم الله –سبحانه– في السابق لمكانة اجتماعية كبيرة وهم ممن يعرف بالنفوس الجزعة والتي لا تقبل أقدار المولى عز وجل، وبالتالي يواجهون هذا القدر الجلل ومن هنا يدخلون في حالة نفسية غير متزنة، وربما تأخذهم عقولهم إلى أن يتصرفوا تصرفات غير مسؤولة وهذا ما نشاهده مع بعض المشاهير في الغرب ونجد أن هناك من يبتعد منهم عن الأضواء فيتحول إمّا إلى مدمن للمخدرات أو قد يتحول إلى بعض التصرفات الصبيانية التي قد تجعل من القانون عقاباً له في بعض السلوكيات غير المقبولة، ولكن من فضل الله –سبحانه وتعالى- أن لدينا خروجاً كاملاً من هذه الدائرة بالتوجه إلى الله. وذكر د.الغامدي أن هناك علاقات تتقرب من المسؤول لمصلحة المنصب وبعد الترجل يغيبون من حوله لذلك يجب على صاحب السلطة والمنصب أن يتنبه إلى أن كل ما يراه في أثناء المنصب هو ليس حقيقة، وأن يجعل من حسن الظن بالله –سبحانه– بأن كل ما هو حوله إنما هو بقدر الله حتى فيما يخص العلاقات الانسانية، لذلك فحينما تحصل المشكلات في هذه العلاقات الانسانية يعود للتوكل على الله، لذلك لا يعول على العلاقات الانسانية بأن تكون الأساس لإثبات وجوده. مصالح مشتركة ورأى د.سعود الضحيان –أستاذ الخدمة الاجتماعية بجامعة الملك سعود- أن العلاقات أنواع، فهناك علاقة الشخص بالجار أو علاقته بزميل العمل، أو علاقته بصديق الدراسة وغيرها من العلاقات، لكنها في الحقيقة مصالح مشتركة، فعلاقة الجار بجاره علاقة طبيعية بحكم السكن ولكن الجميع يشعر مع الآخر بأنه عامل أمان، والعلاقة الثانية علاقة العمل كعلاقة المدير بالموظف وعلاقة الموظفين بعضهم ببعض، وهنا توجد مصلحة تكمن في المحافظة على بيئة العمل بحيث تكون على مستوى عالٍ من العطاء فكلما كانت بيئة العمل هادئة ومنظمة ارتبط ذلك بجودة العمل والإنتاج، والنوع الأخير من العلاقات هو علاقة المصلحة وهي علاقة لا تبنى إلاّ بعد أن يصل شخص ما إلى المنصب، وعادةً نسبة كبيرة تقوم على منفعة ذاتية لطرف واحد وليس للطرفين، فهناك من يستغل الزواج بابنة شخص مهم حتى يحصل على مكانة عالية، فإن وصل ربما أنهى العلاقة بزوجته. انسحاب ووحدة وأوضح د.الضحيان أنه حينما يتقلد شخص منصباً مهماً تنهال عليه التبريكات على هاتفه وهناك من يقدم له الدعوات والعزائم كنوع من المجاملة، فيشعر المسؤول بأن المجتمع يقدره ويرفع من شأنه، وحينما يزول المنصب تنسحب جميع العلاقات من حوله، لذلك فإن في مثل هذا المجتمع المتغير فإننا نجد بأن هناك علاقات تصبح قوية جداً بين أشخاص المناصب في فترة قصيرة جداً حتى يستفاد منها بقدر المستطاع، فإذا لم تتحقق هذا الفائدة تنتهي العلاقة فيصبح هذا المسؤول وحيداً لم تبق معه إلاّ العلاقات التي بنيت من قبل، لذلك يجب على من يتقلد المناصب الهامة أن لا يركن علاقاته القديمة خلفه وينساها؛ لأنها هي من ستدوم معه بعد المنصب، وهناك من يتخلى عن علاقاته بعد استلامه للمنصب وبعد أن يفقده لا يستطيع أن يعود إليها مجدداً فيصاب بالإحباط وهناك من يفكر بالانتحار لفرط شعورة بالخيبة، مشيراً إلى أن على صاحب المنصب ألا يقطع علاقاته القديمة وألا يغره الكرسي؛ لأنه سيحتاجها يوماً ما، كما أن عليه أن لا يخجل بالعودة إلى عمله الأصلي، فيعود إلى علاقات العمل القديمة، وعلاقات الحي القديم الذي سكنه، ذاكراً أن هناك من يحاول بعد فقدان المنصب أن يبحث عن آخر لأنه يرفض أن يخرج من إطار الأهمية فيحاول أن يستفيد من علاقاته في أماكن أخرى، وغالباً لا يجد من يقف معه؛ لأنها تبنى على المصلحة. د.أبوبكر باقادر د.هاني الغامدي د.سعود الضحيان