لقد ظُلم القرآن الكريم عندي حين فُسّر إعجازه للعرب، وتحديه لهم، بالإعجاز البياني، وظُلم العرب حين جُعلت اللغة وفنونها أعظم خصالهم وأبرز اهتماماتهم وأزهى إنجازاتهم.. مشكلة الإنسان دوما في أفكاره، ومن ظواهر ذلك أننا نسعى جاهدين، مهما كانت أفكارنا، أن نُطوّع الواقع، واقع الإنسان والأسرة والمجتمع، ونبذل جهودنا في مواءمة الواقع مع الفكرة، فنُضحي بالواقع وما فيه لعالم الأفكار الذي نشأنا عليه، ولم يكن لنا دور كبير في تكوينه، إننا نميل إلى أفكارنا، وما ورثناه منها، ونتجاهل الواقع وما حواه، والغريب أن تلك الأفكار لم تكن في أعظم تجلياتها سوى صدى لعلاقة العقل بالواقع (كل ما كان يمور في ذلك العصر) واتصاله به، غير أنها تحوّلت مع التقادم والزمن إلى أنماط تفكير راسخة، نقرأ بها الواقع ولا نقرؤها من خلاله، وتكوّن منها ما يُمكن تسميته بتقليد الأجيال في مقابل تقليد الأفراد، وما دُمنا نعيب على الأفراد تقليدهم، ونراه عيبا فيهم؛ فمتوقع منا أن تكون إدانتنا لتقليد الأجيال أشد وأعنف، فنحن في موقفنا هذا نقتدي بالنص الديني الأصلي الذي اجتهد في تخويف الأمة من التقليد، وبالغ في تحذيرها منه. حين نقرأ نهي الأفراد والأجيال عن التقليد في كتاب الله عز وجل؛ ندرك أول ما ندركه أن الرموز من أولئك الذين نُهينا عن تقليدهم، وحُذرنا من اتّباعهم، وندبنا الكتاب الكريم إلى مراجعة أقوالهم وتفقد آرائهم، وهم المرادون أصالة بهذا النهي، والمقصودون من ورائه، وضررهم حين يُقلّدون أشد، والابتلاء بهم أعظم، ولعل أهم معنى في آيات التقليد هو هذا، وهو الالتفات إلى الرموز وخطورتهم حين يكونون هم بيئة التقليد وحماتها، وتصبح آيات التقليد في كتاب الله دعوة مفتوحة لكل جيل أن يُراجع رموزه الأولين والآخرين، ويحذر أن يُؤتى من مأمنه فيهم. من القضايا التي لا تُذكر حين الحديث عن التقليد، ولا يضرب بها أحد المثل عليه؛ القول بأننا أمة لغوية، وأن أميز صفات أسلافنا، وأعظم خلالهم، هو الولع باللغة وفنونها، والتباري في ميادينها، وهو قول رسخ في وجدان الأمة، واستقر في سويداء قلوبها، ولم يعد بالإمكان مراجعته ومساءلته، والعلة الأساس في هذا الرسوخ والتّأثل أن البلاغيين دعاة الإعجاز البياني، وتبعتهم الأمة معظمها، مالوا إلى تفسير التحدي الوارد في كتاب الله تعالى بهذه الخصلة اللغوية، وقرنوا بين هاتين القضيتين، وربطوا بينهما، فصار مَنْ يُنكر هذه الخصلة على العرب، ويُجادل غيره فيها، ويراهم مثل شعوب الأرض، فيهم البليغ والعييُّ، والأَعيياء هم الجمهور الغالب، مُعارضا لفكرة الإعجاز، ومصادما لثابت من الثوابت، وعلى خطر عظيم في دينه، وهذا ما جعل فكرة الأمة اللغوية تقوى في النفوس، وتتشربها الأفئدة؛ حتى غدا القول بها أُنْس الْمُجالِس وحديث الْمَجالس. لستُ أدري أي القضيتين كانت أولا، تفسير الإعجاز بالبياني أم وصف العرب أسلافنا بالأمة اللغوية المنهمكة في فنون الكلام، ولست أدري أيّهما بُنيت على الأخرى، أبُنيت صفة العرب اللغوية على هذا التفسير للإعجاز القرآني، فكان الإعجاز البياني هو الأصل، ومنه استخرجت صفة العرب تلك، أم كان الحال منكوسا وكانت صفة العرب هي الأساس، ومنها اكتُشفت فكرة الإعجاز البياني، واهْتُدي بها إلى هذه الفكرة في تفسير التحدي الإلهي للعرب في كتابه الكريم، هاتان مسألتان متداخلتان، ومن غير الوارد الحديث عن إحداهما دون الأخرى، فمَنْ يسعى إلى مراجعة الأسلاف حول صفة العرب اللغوية سينتهي به الطريق آجلا أو عاجلا إلى قضية الإعجاز البياني، ومن يُباشر قراءة تفسير الإعجاز القرآني من جديد ستأخذه قراءته في النهاية إلى مراجعة تلك الفكرة اللغوية عن العرب، ولعلّ الدور المنطقي الجاري بين هاتين الفكرتين يُسرّع في مراجعتهما ويُعين على القبول النظر فيهما. وأيّا ما كان الحال في هاتين القضيتين فقد ظُلم القرآن الكريم عندي حين فُسّر إعجازه للعرب، وتحديه لهم، بالإعجاز البياني، وظُلم العرب حين جُعلت اللغة وفنونها أعظم خصالهم وأبرز اهتماماتهم وأزهى إنجازاتهم، وقد حان للعربي والعربي المسلم الذي يغضب لنقد العرب، ويحزن حين ذكر مساوئهم، أن يدفع عن أسلافه تلك الخلة، ويُخلّص كتابه الأم من ذاك التصور، فيبدأ بمراجعة هاتين المسألتين، وينظر في ما يجرّانه عليه وعلى أمته وكتابه، ولا يضره بأيهما بدأ، فهو منقاد إلى الأخرى بمعالجة أختها ودراستها، ومضطر أن يقرأ إحداهما بعد قرينتها، فهما كوجهي العملة، تحضران معا، ويقود نقد الواحدة منهما إلى نقد الأخرى ومساءلتها، ومن غير الوارد في ظل ثقافتنا الراهنة أن تُدرس قضية منهما دون أختها، وتراجع بعيدا عن زميلتها.