عندما التحقت ببرنامج الدكتوراه في بريطانيا، تفاجأت بأن أحد زملائي البريطانيين المستجدين لم يسلك الطريق المعتادة نحو الدكتوراه في الفيزياء إذ كان يعمل محللا في القطاع المالي، ثم قرر في يوم ما أن يسعى لتحقيق حلمه القديم بأن يصبح فيزيائيا. فالتحق بالجامعة البريطانية المفتوحة لدراسة بكالوريوس في الفيزياء أثناء عمله، واجتهد في دراسته وتحمل المصاعب حتى حصل على الدرجة، ومن بعدها حصل على منحة من الحكومة البريطانية للالتحاق ببرنامج الدكتوراه. وبعد سنة تقريبا، التحق بالمجموعة البحثية طالب بريطاني آخر له حكاية مشابهة لقصة زميلي، ولكنه كان طبيبا عاما! وبعد عدة سنوات من عمله، قرر هو الآخر أن يدرس ما كان يطمح في أن يدرسه قديما، فالتحق ببرنامج بكالوريوس في الفيزياء، واجتهد حتى حصل على الدرجة، ومن ثم على المنحة الحكومية نفسها التي حصل عليها زميلي الأول. فترك الطب وبدأ رحلة شاقة جدا في الدكتوراه. هذا ال"طبيب سابقا" لم يكن فاشلا في الطب، وذلك المحلل المالي لم يكن فاشلا كذلك، لكن كليهما كان شجاعا بما فيه الكفاية ليعترف بأن شيئا ما ينقص حياته، وأنه لم يسلك الطريق التي أرادها في الأصل فقرر أن "يجرب حظه" لأن الأنظمة والفرص في مجتمعه تسمح بذلك وأبواب الاختيار مفتوحة. وفي كلا القصتين، لم تكن تلك النقلة سهلة أبدا، وخصوصا للطبيب السابق، ولكنهما كانا لا يخجلان من السؤال باستمرار وطلب المساعدة ولم يكن الجهد المضاعف المطلوب منهما عائقا لتحقيق حلم دراسة الطبيعة والكون. مع "جيسون" و"مارك"، كانت دائما ما ترد في ذهني أسئلة: ماذا لو كانا في مجتمعاتنا العربية؟ هل يوجد من يتشجع لدينا لترك عمله، وخصوصا مهنة مطلوبة كالطب، أو مهنة مجزية كالعمل في القطاع المالي، من أجل أن يسعى لاكتشاف الطبيعة وهو يعرف جيدا عظم التحدي الذي يواجهه؟ هل مجتمعاتنا توفر فرصا للمغامرين مثل هذين الشابين؟ هل برامج الدراسات العليا لدينا بالكفاءة والفاعلية نفسها التي تقدمها تلك الجامعات لطلابها الذين يتخيرون بين عدة جهات -خارج النطاق الأكاديمي- بعد حصولهم على الدرجة؟ أسئلة كثيرة كانت تتردد في ذهني، ولم تكن الإجابات مرضية! ومع ذلك، كم أتمنى أن يتحول مجتمعنا في مقتبل الأيام إلى مجتمع الفرص، مجتمع لا يخشى المغامرون فيه على أنفسهم، مجتمع لا تخشى على نفسك فيه من الانتقال من عالم الوصفات إلى عالم المعادلات!