كثيرا ما نستحضر شاعرا ظريفا عرف بمطوع نفي نستحضره من ذاكرة الرواة لنستمتع بما يروى عنه من شعر طريف وقصص نادرة، ولا نعرف عنه أكثر من ذلك. وقد صدر عن دار جداول كتاب بعنوان: «سعيدان بن مساعد مطوع نفي حياته وشعره» للباحث القدير مسعود بن فهد المسردي. دراسة جادة ثرية المحتوى، ثرة المصادر الموثوقة، رحبة التناول، تكاد تجيب عن كل ما يثار من تساؤل عن حياة الرجل الشاعر الواعظ الراقي الخطيب المأذون الشرعي المتميز برحابة الصدر وسماحة الطبع، وسرعة البديهة، والرد اللاذع، والقرب من كل فئات المجتمع علمائه وأمرائه وعامته، بعيداً عن صلف بعض معاصريه من مطاوعة زمنه الذين حدا بهم التعفف إلى التزام الوقار وحصانة العلاقة وحصافة الحديث والترفع عما يرون أنه غير لائق بمن هم في منزلتهم. يفصل الكتاب سيرة الرجل دون كل أو ملل حتى آخر سطر فيه فتكون فكرة عن ثقافة نادرة في زمن صوره المؤرخون بالعنف والاضطراب وعدم الاستقرار، وإذا بمحتوى الكتاب تبهرك أدبياته بغير ذلك، من أخبار السياسة والاقتصاد والأدب الجاد والطريف والساخر، ومحاكاة أصحابه لما كانت تعمر به مجالس الأدب في عصوره الذهبية، ويجد الباحث الاجتماعي والانثروبولوجي بغيتهما من المعلومات الكامنة في النصوص وتوصيف حياة الناس والوقوف على أحوالهم ما دقت أدوات بحثه وتخيلت بصيرته. قد يجد بعضهم مبالغة فيما أطرح من رؤية حول معطيات كتاب من القطع المتوسط يقع في مئة واثنتين وثلاثين صفحة، قدمت مطوع نفي تقديما يختلف عما تناقل الناس عنه، وأظهر الحقيقة التي حفظتها الذاكرة السليمة ودلت عليها الروايات الأمينة الجادة وأبرزت لنا شخصية نادرة منحها أهل زمانه ما تستحق من احترام وتقدير. ويمكن أن نورد نموذجا واحدا مما أورد المؤلف من أدبيات: لقد كان من حسن الحظ أن يعاصر المطوع نخبة من فحول شعراء زمانه مثل ابن سبيل والشريم والطويل والمجماح فينصب المطوع حكما بينهم لنقد شعرهم، ومن ذا الذي يقبل حكمه إذا لم يكن كفؤا لذلك؟ في موقف يذكرنا بما كان يجري في سوق عكاظ من نقد شعري لدى النابغة وأمثاله. تنافس الشعراء الأربعة أيهم أحسن شعرا في الغزل «وطلب من كل واحد منهم أن يختار بيتين من قصيدة غزلية له، فاختار الطويل قوله: العين عين اللي براس الجذيبة في ماكر عسر لها وكّرت به والردف طعس نابيٍ ما وطي به عقب المطر شمس العصيْر أشرقت به وقال ابن سبيل: إلى مشى بحجول والراس مجدول ينقض على الأمتان شقر عثا كيل ويلا ضحك باللي كما ضيق هملول أو قحويانٍ في مدامث غراميل وقال ابن شريم قوله: ريحه كما ريح النفل في شعيبه في حاجر حله من الوسم تشعيب ممطور أمس وممسيٍ ما وطي به واليوم شمس وفاح طيب على طيب واختتم المجماج المنافسة قائلا: راعي هدب سود مظاليل ووساع سود هدبهن والمحاجير جملة حبه يخج القلب ما يوجع اوجاع لاشك قلبي مودعه بيت نملة وأصدر المطوع حكمه بأن «بيتي المجحاح أعذب لفظا، وأرق معنى، وأقوى سبكا» ولو لم يكن سعيدان مطوع نفي محلا للنقد الفني لما احتكم إليه عمالقة الشعر في زمانه ودياره، ولما ارتضوا حكمه مع عذوبة ورقة أمثلة الأربعة. إذاً ليس شاعرنا رجلا عاديا، بل هو الشاعر المثقف الذي يقدمه المسردي عملاقا كما عرفه أهل زمانه واستعذب الرواة طرائفه. لا يتسع المجال لأكثر من ذلك ولن يغني ما ذكرت عن قراءة الكتاب الممتع. وكما قال المؤلف: «يلقي هذا الكتاب الضوء على مسيرة الشاعر سعيدان بن مساعد الملقب (مطوَّع نفي) أحد شعراء عالية نجد البارزين، وأحد أهم الشخصيات المثيرة التي جمعت أشتاتاً من المتناقضات في نظرة المجتمع فهو إمام مسجد، ومعلم في الكتاتيب، ومعالج شعبي، إضافة إلى أنه شاعر غزل رقيق، ومعارضات طريفة سارت بها الركبان، وتغنى بها الحاضر والباد، مما جعل شخصيته عالقة في الأذهان خاصة في الذاكرة الشعبية النجدية. وهذا هو العمل الأول الذي جمع بين سيرة هذا الرجل وأشعاره من خلال جمعها، ومقارنتها، وتمحيصها، وتوثيقها ليكون مرجعا شاملاً عن حياته ومسيرته الشعرية». وأخيراً يشكر الباحث المسردي على حسن تناوله وشمولية طرحه، وتقديم الرجل تقديما منصفاً يعرف به تعريفا حقيقيا لا شك أن ذلك سيحدث إضافة مفيدة للتعريف بالرجل وإنصافه. عبدالرحيم الأحمدي