هذه قراءة في قصيدة الشاعر حيدر العبدالله المعنونة ب" مخطوطة القرى والظلال"، والعنوان يفتتح أبواب القصيدة ويرتبط بعمقها إذ يدور الحوار الإبداعي حول تلك القرى ونخيلها التي استقبلت الضيف الكريم، وحركت وجدان الشاعر، فالقرية وظلال النخيل يتحركان في القصيدة، فلا يخلو بيت من حضورهما. وتتكوّن قصيدة الشاعر من مقاطع أربعة حب الوطن، وحب الملك ومدحه، ومدح الأمراء الثلاثة، وختام القصيدة، وفي كلّ تجد بنية القصيدة عموما مترابطة إلى حدّ كبير، وسننظر كيف تحرّكت فيها الصورة واللغة البنائيّة؟ وما مقدار المعاني الشعرية؟ تبدأ القصيدة بأسلوب الحذف لإفادة المدح، إذ استهل القصيدة بمدح الوطن وهذا سياق من سياقات التعبير عن الحبّ. والتعبير بلفظ الحوض مما يشير إلى المنيّة والقتال لحماية الوطن. وينتقل الشاعر بعد ذلك بجملة عطفها على الجملة الوصفيّة للوطن، وقدّم متعلّق الفعل ليفيد تخصيص الوطن بتلك الصفة من المبادرة إلى العيش فيه، والتركيب ظاهرة لا يخدم المعنى، بل تنقصه الدقّة لأنّه يفيد أنّ العيش في الوطن أقلّ زمناً من العيش في غيره. وفي الأبيات الثلاثة بعده يقارب صورة الحياة والموت في حب الوطن بين شهيد قدم روحه للوطن، ومحب يعشق وطنه عشقاً يورث الموت. ويضيف للحياة العاملة معنى يفضل الشهادة وبهذا يقع الشاعر في الخطأ المعرفي الذي تتقدم فيه الشهادة والتضحية بالنفس على غيرها من الأعمال. ويعلل الشاعر أفضليّة الأحياء على الشهداء بما يقدّمه الأحياء من التنمية التي توازي القوة العسكرية في صد الأعداء، لكنّ الشاعر كسر هذا المعنى بقوله "أحياناً" إذ تشير إلى أنّ التنمية فائدتها في دحر أهداف العدوّ قليلة، ويظهر أنّ الشاعر ارتكب هذا الضعف ليقيم القافية. ويَعدُ الشاعر في البيت السادس بأن بلاده ستبقى خضراء والخضرة معنى مجازي يشير إلى الازدهار والحياة، وكرّر اللفظ للوزن، ثم أدخل صورة لطيفة بأنْ جعل الاخضرار والازدهار هو الإنسان، إذ الوطن هو الإنسان عند الشاعر، وهو معنى جيّد، يظهر جانب الصدق العاطفي تجاه الوطن ونخيله. ويؤكّد الشاعر على حياة الوطن المتمثلة في حياة الأرض والإنسان، لكون حاكمها هو سلمان، إلا أن الشاعر وقع في خطأ، لغوي وهو استعمال لفظ "طالما" استعمالاً عامّياً بمعنى "مادام"، فنقص فصاحة البيت، لأنّ "طالما" من الأفعال الماضية المكفوفة بما المستغنية عن الفاعل. والشاعر أراد "مادام" شيخها سلمان. فخانه اللفظ. وينتقل الشاعر في البيت الثامن، فيعتمد على طريقة حذف المبتدأ، وهو أسلوب عربي جزل فصيح، يهيّئ للشاعر تأكيد صفات الممدوح، وفي البيت قيمة جماليّة أخرى بتكرار لفظ الملك في الشطر الثاني وهو ما يعرف بحضور اسم المحبوب على اللسان فيكثر ترديده، ولو ترك الشاعر واو العطف، لتحقّق المعنى بصورة أصحّ لكيلا يفهم من الواو المغايرة بين المتكررين فيكون الثاني غير الأوّل، ولو فعل الضرورة الجائزة بقطع همزة الوصل وترك الواو لكن أجمل، وفي جمع الوطن والمواطن في لفظ التثنية "كلانا" و"كلينا" ما يوحي بامتزاج الإنسان بالأرض حتى اتّحدا في الخطاب، وهو تصوير جميل. ويمضي الشاعر في البيت التاسع في وصف علاقة الملك بشعبه، بتعريف المسند الاسمي بالموصوليّة، وهو أسلوب بيانيّ جميل ويدخل في أساليب المدح، وفي البيت صورة الالتفاف العاطفي والفعلي بين الملك والمواطنين، وفي الصورة احتمال ضعف المعنى إذ إنّ لفّ الأيادي صورة مبتذلة لمعنى الحبّ، فعاد ليرتقي بالصورة بمعاني المدح حين جعل الملك كالسحاب الذي يُظلّ الناس تحته، والمعنى في أصله عامّي مبتذل أيضا، إلا أنه ركّب فيه معنى الألفة بين أفراد الشعب تحت ظل الملك فاكتسب المعنى قيمة مضافة، وإن لم يدعمها المعنى الشعري بقوة، وتتكرر في البيت العاشر صورة الأيادي في معنى الحبّ لكنها هذه المرة أقرب لمعنى الرعاية وكان الأولى أن يستعمل ألفاظ الأمان المناسبة لمقام الملك. لأنّ الاحتضان معنى رقيق دون مقام العظمة والسلطان. وفي الإشارة إلى "زيادة التنوّع في المعاني" لمحة شاعريّة إلى السياسة الحكيمة في رعاية أبناء الوطن بلا تحيّز. ويسترسل الشاعر ببيت فيه نبرة العاطفة طالباً الاستزاده من حديث الملك بصيغة اسم فعل الأمر التي تشير إلى رغبته في إطالة مدة الحديث مع ممدوحه وهو تعبير عن الرضا والإعجاب، فنادى ملكه باسمه خاليا من أداة النداء وهو يرفد المعنى السابق من قرب الممدوح إلى نفس الشاعر، يعقبه ترحيب بصيغة التوكيد وهي صيغة المصدر التي تؤكّد الفعل وترغّب في وقوعه. ولكن يقع الشاعر في خطأ معرفيّ لغويّ حين يشير الشاعر إلى منزلة الضيف في "الحشى" إذ الحشى لا يدخل فيه القلب أو الصدر اللذان هما محل الحبّ والعاطفة، ولعلّه أراد بالحشى الصدر وما يكنّه وهو القلب، كما في الاستعمال العامّيّ. وقد عقّب الشاعر هذا المعنى بمعنى أقلّ، وإن جعل الممدوح مصدر المنى إلا أن لفظ "الأرض" مفضول دعاه إليه الولع بالصورة المتكلفة من تقليب الإضافات. وفي البيت الثاني عشر يوسّع الشاعر معنى الحبّ وينتقل إلى الخليج، ويدخل أسلوب التشخيص الاستعاريّ بإحياء الخليح في صورة القادم شوقاً، وندى، راجياً للخليج الرحمة بقوله "حنانا"، إلا أنّ طلبه رحمة الخليج لا سياق له في القصيدة. وينتقل الشاعر في البيت الثالث عشر لتقديم نفسه بأسلوب الاستدعاء ولفت انتباه الممدوح إلى المتكلّم، وهذه الصورة تستلهم حسنها من ربط الوفاء والولاء بعمق التاريخ، وأصالة المكان، ولكن قافية البيت قلقة فيظهر ضعيف الدلالة منفصلاً عن سياق المعنى، فقوله "وكانا" لا يسعف البيت في تقدير الجزء المحذوف. والنداء في البيت الرابع عشر بالأبوّة يعزّز معنى التكريم والتعظيم للمدوح، وهو في سياق المدح بأنّ الأمم الأخرى تفتقد لحاكم بمكانة الأب، وهذا بيت جيّد في تصوير الحاكم الذي يرحم شعبه. إلا أنّ الشاعر في البيت الذي يليه يصوّر الممدوح بالخيمة وهو وصف غير موفّق في مقام مدح الملوك، فبعد أن جعل الشاعر ممدوحه وطناً، عاد فاختزل المعنى الكبير في الوطن إلى مسكن صغير لا يليق بقوة المعنى السابق ولا بمقام الممدوح، فكان الشاعر في غنى عن هذا البيت. ولم يكتف الشاعر بالصور البيئيّة المشاهدة فابتكر صورة فيزيائية مركبّة من استعارات متراكمة، وهي في ذاتها جميلة لو سلمت من لفظ "الطيف" الذي عكّر المعنى لأنّه مستعمل في معنى عامّي، أمّا معناه الفصيح فلا يستقيم للشاعر هنا، وليس ممّا يمدح به. ويعود الشاعر للتكرار والمزاوجة وتبديل الإضافات فيصف مكان الشعب عند الممدوح بأنّهم في الصدر، وهو معنى مستفاد من "الحنايا" وأصله: جمع حنيّة وهي القوس، واستعارتها للصدر صورة ضعيفة، وليس وراء الشطر الثاني معنى سوى التبديل بين الإضافات، فأخلّ. ثم يترقّى الشاعر في المبالغة بوصف مكان الشعب في قلب الممدوح فينفي أن يكون الشعب مسكنه البيوت وذلك ليؤسّس عليه معنى المبالغة، وهو من الإفراط في المبالغات، فلا يقبل الذوق افتراض صورة معيبة لتخييل صورة محبوبة. ولم يزد على البيت الذي قبله في المعنى، وقد اختلّ التركيب بقلب الإضافة، فإنّ الممدوح لا يوصف حبّه لشعبه بأنّه لا يريد غير شعبه، وكأنّ من عادة الملوك التفكير في مثل هذا، وهو معنى ضعيف جدا. ثم كرّر الشاعر ضعف المعنى وهو يبحث عن شدّة الترابط بين الممدوح والشعب، فجعل منزلتهم في عينه، والعرب تستعمل العين للرعاية، فيقال: فلان بأعيننا أي: برعايتنا، ولكن لا يصحّ معها حرف الجرّ "في" المفيد للاحتواء، فهو معنى رديء لا يقال للملوك ولا يليق بمقام الممدوح. وفي الشطر الثاني يجري الشاعر على غرار تراكيبه السابقة من تقليب الإضافات للوصول على ثنائيّة العلاقة بين الشعب والملك، وهو تكرار رديء يتزايد دون ازدياد في المعنى. فمرّة جعل الشعب في الحشا من الممدوح، وأخرى في الصدر، وثالثة في القلب، ورابعة في العين. فأطال الأوصاف بتنويع الألفاظ دون طائل معنى. وقد أتبع الشاعر ثناءه على حرص الممدوح على شعبه بالسهر لمصلحتهم، ولكنّ استعمال لفظ الخوف رديء جدّا، والملوك لا يوصفون بالخوف إلّا من الله، فالبيت من أضعف أبيات القصيدة، وفيه خلل معياريّ بتقديم الحال على كم الخبريّة. وفي المقطع الرابع من القصيدة ينتقل الشاعر لذكر وليّ العهد، ووليّ وليّ العهد، فيدمج منصبيهما في لفظ "وليّيه" وهو تقصير في وصف محلّهما من السلطة، فلا يصحّ قطع لفظ:"وليّ" عن الإضافة إلى:"العهد" كما لا يصحّ دمج وصفهما في التثنية لأنّ ولاية العهد ليست كولاية ولاية العهد، فخلل البناء اللغويّ أدى لخلل المعنى الذي أراده، وذلك خطأ معياري لغويّ. ثمّ عقّب هذا الخلل اللغويّ بصورة دون المتوقّع فلا فائدة من المبالغة في جعل الليل بأمرهما وهي مبالغة فيها مأخذ تصويريّ، ولا يناسب البشريّة إسناد تلك القدرة إليهما فتصريف الليل والنهار لله تعالى. وقد اتّضح تراخي النفَس الشعريّ عند الشاعر إذ تتزايد المعاني الضعيفة كلّما تنامت أبيات القصيدة، فالإخبار عن "سعود" بأنّه أمير لامعنى له، فهو استدعاء لاسم الأمير في خبر لاشاعريّة فيه، وهو من باب "الليل ليل والنهار نهار" ويضاف لذلك وقوع الشاعر في تناقض لافت في قوله:"وسعودا لا نزكّي لأنه أزكانا" فقد حكم بأنّه لا يزكيه، ثم ما لبث أن عاد فزكّاه بجملة التعليل، فضرب معنى الجملة أوّله بآخره، والبيت لا معنى وراءه ولا شعر في تراكيبه. وعاد الشاعر يحاول بعث الشعريّة في أبياته حين استوحى معنى حيويّا بتشخيص النخيل وتحريك الحياة في البيت بالربط بين حياة النخيل وحب الأمير، لكن يقصّر بالمعنى لفظ "أدمنته" وكان في اللغة ما هو أولى من هذا الدالّ المبتذل، وفي استرفاد معنى الحياة في علاقة الأمير بالمكان والإنسان والنخلة تصويري جيّد. وينتهي الشعر بنوع من التخلّص الفنيّ حين يشير إلى الترابط بين سخاء الغمام وسخاء الممدوحين. ثم يؤكّد في الأبيات الثلاثة قيماً ذات معانٍ تتعلّق بمكانة الوطن في النفوس، وتضمّنت صورة إيحائيّة تحوّل فيها المعنى من صورة حسية إلى أخرى، وهي صورة معقّدة ذات منظور خاصّ بالشاعر، بدا فيها الوطن جميلاً عبقه، وهو لباس يتزيّن به كلّ من ينتسب إليه، وبين صورة التنعّم بعبق الوردة، وصورة الموت في تراب الوطن يجمع الشاعر طرفي الوجود في الوطن، وكأنّ الشاعر يستدرك على المعنى القاصر في مستهلّ القصيدة، وهو معنى عدم التواني، وعطف نهاية القصيدة على مقدمة نوع من الترابط. وبعد هذه القراءة، فإنّ من الحقّ أن يقال إنّ في القصيدة معاني جميلة، وإن خالفه التعبير أحيانا، إنّما يعكّر على جمالها في بعض المواضع شيء من تراكيب تتفاوت مستوياتها في الجودة، وأخرى ضعيفة الدلالة، كثر فيها تقليب المعاني في ثنائيّة متكرّرة، ذلك أنّ أغلب المعاني العامّة حسنة، وليست هي الشعر كما يقول الجاحظ، وإنّما المآخذ في الدلالة على تلك المعاني بالتصوير الشعريّ للمعنى، وهذا هو الذي يدخل بالعمل في حدّ الشعر أو ينقص منه، فالشعر صورة المعنى وليس المعنى فحسب، لأنّ المعاني المجرّدة تأتي في غير الشعر. لقد نجحت التجربة في مواضع وأخفقت في أخرى، فأمّا جوّ القصيدة العام فهو جوّ عاطفي قليلاً ما يرد به الشعراء بلاط الملوك، فهو أشبه بمقامات التلطّف والاعتذار، وخلو القصيدة من ألفاظ فخامة المدح المناسبة لمقامات الملوك، وتضمّنها ألفاظاً غير مدحيّة راجعٌ لاختلاف وحي الشعر في نفس الشاعر، فجزالة الألفاظ، وفخامة التراكيب تعود إلى طبيعة النفس الإبداعية، فلا يلزم شاعراً أن يأتي بطريقة شاعر آخر. د. ظافر العمري