سعيد بن عبدالرحمن آل كلثم كثير من يرحل عن عالمنا, وقليل ما هم الذين يتركون بصمةً في هذه الحياة, هذا بحق الرجال, وهو في حق النساء أقل وأقل. ولك أن تتخيل أيها القارئ الكريم مدى الأثر الذي سيتركه رحيل امرأة زاهدة عابدة لا تراها إلا راكعة لله ساجدة, إن نطقت فذكر وتسبيح, وإن صمتت فورع وتقوى. حديثها يقرّبك من الله, والدار الآخرة, ويبعدك عن الحياة الدنيا وزخرفها. دقائق تقضيها معها تغنيك عن سلسلة من المحاضرات والمواعظ, وتكفيك من قراءة مجموعة من المراجع والمصادر. وكنت كلما سألتها عن حالها, أجابتني جوابا واحدا لا يتغير يتردد صداه في مسامعي الآن لا يتبدل: ( أنا لا أشكي حالي على أحد إلا على الله). وكم شعرت بالحياء والخجل حين أقف أمام هذه المرأة الضعيفة العاجزة, وأنا الرجل القوي القادر, وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. هذه المرأة قد ابتلاها ربها بفقد البصر, ثم بموت ابنها الأصغر, فما كان منها إلا الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم صابرة محتسبة، ولها بهذه وتلك بشارتان عظيمتان من الل،ه ومن أصدق من الله قيلا على لسان نبيه محمد الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلوات ربي وسلامه عليه. ولم يعهد عن تلكم المرأة إلا الابتسامة وبشاشة الوجه، إلا أنها تغضب أشد الغضب حين يكثر المادحون لها، المثنون عليها، فتصرخ في وجوههم قاطعة حديثهم: "لا تزكوا أنفسكم". وهؤلاء خلق الله شهداؤه في أرضه، ما شهدوا إلا بما علموا، وما كانوا للغيب حافظين، نحسبها كذلك ،والله حسيبها ولا نزكي على الله أحدا. وختاما نحن وايم الله لا نحزن على رحيلها عن عالمنا، فهي قد قدمت على رب كريم جواد، لا يضيع سبحانه أجر من أحسن عملا، رضيت بما قضى، وصبرت على ما ابتلى. ولكننا نحزن لأنّ برحيلها قد سُدّ في وجوهنا بابٌ عظيمٌ من أبواب الخير لا يُفتح إلى يوم القيامة.