حين أعيد قراءة آيات حكاية النبي موسى عليه السلام وعبدالله الذي أتاه رحمة وعلمه الله من لدنه علماً في سورة الكهف، حينما قايضه موسى توقاً إلى المعرفة، العلم مقابل إتباعه، أجابه مدركاً أن الصبر شرط للمعرفة: (إنك لن تستطيع معي صبرا)، وكيف له أن لا يخنق الصبر عجالةٌ على ما لا يعلم عن أعماقه وتفاصيله المتوارية، وأيضاً (قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا). إلا أن المرور الخاطف على الوقائع والأحداث ورؤية ظاهرها يعجل من وهن مخلوق الحكم وذبول نبتة القرار.. (لقد جئت شيئاً إمراً). الفكر من أجل أن يزدان ويتفتق لابد أن يروى بالوعي، لا بد أن تخرق سفينة الخمول، وأن يقتل غُلام الحياة المُرهِق بطغيانه ولهوه، وأن يقام جداراً يحول دون طوفان المعلومات الهادر. القراءة والقراء أصبحوا الآن أشبه بالرحالة الذي يحمل على ظهره حقيبة هائلة وثقيلة ممتلئة بمعلبات الصفيح المعبأة بأطعمة باردة ورديئة يأكلها خشية الهلاك جوعاً لا للاستمتاع واللذة. فمنذ أن وقف طائر (تويتر) على الرؤوس، والشبكة العنكبوتية نسجت خيوطها حتى هُجِرت المكتبة وأصبح العالم مسكون بعدد مهول من المعلومات، ومن أشباح المعرفة. يقول ماثيو فلامينق مؤلف كتاب (The Kingdom of Ohio): "لقد قالوا لي أننا نعيش في عصر المعلومات، لكن لا تبدو أياً من هذه المعلومات أنها هي التي أحتاجها أو تقربني أكثر من الذي أريد معرفته. في الحقيقة أنني أصبحت أكثر وأكثر اقتناعاً بأن كل السحر الإلكتروني يضيف فقط إلى حيرتنا، حيث ينقل لنا الأنباء المثيرة وأحكام عن أحداث بالكاد بدأت: سيل من الثرثرة يتحرك بسرعة الضوء مما يجعل سماع الأشياء المهمة مستحيل بعض الشيء". فالحصيلة من المعلومات قد أضحت أكثر تضخماً الآن، ولكنها كالديم مطراً خفيف مستمر بلا برد أو برق أو رعد، فلا هو الذي يغير ملامح الأرض ولا يخرج منها نباتاً وحباً. فالنهضة المعرفية تحتاج لصانع ومستفيد، رخاوة يد القارئ تؤثر إحباطاً في عزم الكاتب، فعلى سبيل الذكر توقف الشاعر (أمل دنقل) عن الكتابة لفترة أربعة سنوات، يقول حينذاك: نشأت حينها أزمة حادة بيني وبين نفسي عن جدوى الكلمة في مجتمع لم يعد يصغي إلا إلى هدير الصحف والإذاعات. فحتى لا يصاب الكتاب وكاتبه في مقتل الإحباط، وحتى لا نؤسس جيل غير مثقفاً يعرف الكثير ولا يعي إلا الشيء الزهيد، فإن المسؤولية تقع على همة الفرد وطاولة المدرسة وغرفة المعيشة. كما أن الوسيلة ليست هي الأهم، سواءً كانت كلاسيكية أم عصرية، فالسومريون قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد كتبوا على اللوح وها هو العالم يعود إليه الأن، فالغاية الأزلية هي تنوع المضمون وعمقه وجودته. يقول الفراهيدي: (رجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك جاهل فعلموه. ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك الأحمق فاجتنبوه).