التغرير بعقول الشباب، أبرز الاتهامات التي من أجلها حوكم الفيلسوف الإغريقي سقراط، وعوقب بعدها بتجرع السم. دوما عبر التاريخ تظل عقول الشباب حقولا خصبة واعدة، يسعى الجميع إلى الاستحواذ على تلك الحقول، والاستثمار بها لتثبيت النفوذ. وفي إحدى حلقات برنامج الثامنة، والتي تناقش أكاديميون خلالها بعض الممارسات الشبابية الخادشة للمجتمع، لم نشهد أو يمرر لنا تحليل علمي أكاديمي للظاهرة الاجتماعية. وكل ما شهدناه هو لائحة اتهامات هائلة ضد الشباب، حيث أرغى وأزبد المشاركون وهم يتأسفون على الخلق القويم، والمبادئ والمثل.. وهو الدور الذي يقوم به عادة الوعاظ في خطبة الجمعة. ولكن على مستوى النقاش الأكاديمي كنا نطمح بدلا من الزئير، أن يكون هناك تحليل وتفكيك وتفسير علمي مقنع لهذه الظاهرة. فأولئك الشباب قد يكونون منجما للمادة الإبداعية الخام، ويضمرون طاقات فنية كبرى (ولا أشك في هذا) ولكنهم عاجزون عن التعامل معها، أو تسكينها مساراتها الصحيحة، نتيجة لغياب الحواضن التي من الممكن أن تستثمر في مواهبهم. قد يكون الفنان بأعماقهم كفتى الغابة (ماوكلي) في طوره البدائي الأول، داخل محيط متصحر فنيا، دون أنشطة إبداعية جمالية في المدارس، أو في أندية الحي، أو أكاديميات صاقلة، بالإضافة إلى نظرة دونية تطوق الممارسة الفنية، تلك النظرة التي تتربص بزهو المبدع في أعماقهم، وتجعلهم يشعرون بالقصور والاستنقاص والحيرة، التي باتت تظهر على شكل تصرفات منفلتة متحدية للضوابط. الشخصية الفنية في أعماق هؤلاء لم تقصص أظافرها ويشذب شعرها ويعتنى بهندامها وتدخل في طورها المدني، بل ظلت في طورها الغابوي البدائي، الذي يجعل المجتمع يستهجن تصرفاتهم. وهؤلاء أيضا بجميع صخبهم الإبداعي، ولزمن قريب خرجوا من مدارس كانت تجعل من تكفين الميت نشاطا صباحيا، وزيارة القبور رحلة مدرسية، بينما الآن مازالت تلك المدارس نفسها تصر على أن تعلمهم (كيف تتقن عقيدة كراهية العالم في سبعة أيام). بالطبع عند تغييب الجميل والملهم والسامي من فضائهم، سيخرج لنا فتيان الغابة يضجون بمادتهم الخام في أعماقهم، بشكل غير مهذب وصادم. ولو استطاعت المراكز الثقافية، وأندية الأحياء الاجتماعية أن تصنع لهؤلاء حيزا، وتؤسس لها أرضية شعبية اجتماعية، فحتما الكثير من تلك المظاهر الخادشة ستختفي، وستنسرب في مساراتها الإبداعية المتوقعة. يصور الأنثربولوجي د. سعد الصويان الفنون على أنها (الحس الفني الذي جبل عليه الإنسان، غريزة وهبها الله له مثل اللغة، وهي لا تقل عن اللغة في دلالاتها النفسية وإيحاءاتها الرمزية. الفن هو استنباط النظام والتوازن اللذين يسيران الكون والطبيعة ثم إسقاطهما على إبداعات الإنسان الفكرية ومنتجاته المادية). وبغياب هذا النظام والتوازن الذي تحققه الفنون في حياتنا، سيظل فتيان الغابة يمارسون (الشيطنة والإزعاج)، والتي حتما ليس حلها الزئير المتأسي على القيم والأخلاق.