إنني لا أرى بداً من مراجعة السياسات في التعاطي مع الحراك الجماهيري الضخم على شبكات التواصل الاجتماعي. وأنا هنا لا أطالب بالحجب أو الإلغاء وإنما أحفز على مبادرات حقيقية تدرس وتراقب حجم التأثير وسرعة وتيرته والإسهام في إدارته بما يحقق المصالح العليا الحراك الفكري غير المسبوق عبر وسائل التجمهر الافتراضية هو الذي يصنع التغيير الذي يأخذ أشكالاً عدة وبأدوات مختلفة. ربما لم يتمكن المنظرون حتى الآن من التقاط أنفاسهم لوضع تفسيرات علمية بعدية، أو تنبؤية لمآلات الواقع القلق الذي نعيشه منذ بضع سنوات. وفي الحقب التي سبقت الحرب العالمية الأولى وتزامنت مع أعنف الاضطرابات التي عصفت بأوروبا، ثم ما تلاها مباشرة تشكلت قناعة لدى الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون (1841-1931م) في كتابه سيكولوجية الجماهير خالف بها المعتقد السائد بأن "الانقلابات الكبرى ... تبدو للوهلة الأولى وكأنها محسومة من قِبل تحولات سياسية ضخمة". فالاعتقاد الذي ساد طويلا ذهب إلى أن "الغزو الذي تتعرض له الشعوب.." أو الانقلابات الثورية أو العسكرية هي التي تؤسس للمظاهر الاجتماعية والفكرية والحضارية التالية لها. ويذهب لوبون في تصحيح هذا الزعم إلى أن الدراسة والتقصي أثبتت له أن السبب الحقيقي الذي يقود الغزوات، والانقلابات إنما هو "التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب" وبناء عليه فإن التحولات التاريخية "الحقيقية ليست هي تلك التي تدهشنا بضخامتها وعنفها.. (وإنما) هي تلك التي تصيب الآراء العامة والتصورات والعقائد". وبذلك فإن الظواهر المرئية مهما كانت ضخامتها ودمويتها وأثرها على الأرض إنما هي نتائج ملموسة للعطب غير المرئي الذي أصاب "عواطف البشر". والربط بين ما توصل إليه جوستاف لوبون وبين عدد من الأحداث التي عايشتها يجعلني أميل إلى صدق ما ذهب إليه. فالثورة الإيرانية عام 1979 لم تحدث لولا ما سبقها من تغيرات حقيقية في البنية الفكرية والشعورية للشعب الإيراني، كما أن أحداث 11 سبتمبر 2001م، وما شهده العالم لاحقاً من نشوء تنظيمات إرهابية استهدفت الاستقرار العالمي وبخاصة في الشرق الأوسط، وصلت إلى هذا المستوى من الدموية التي طالت لاحقاً أقرب الناس للإرهابين وأعني الأم والأب، ثم وصل بها الفجور أن تعدت على حرمة المكان، وقداسته، فضربت بشرها حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان. هذه الأحداث الظاهرة التي هزت الضمير الإنساني لم يكن لها أن تحدث لولا تغييرات عميقة حدثت في فكر وعواطف القائمين بها والمتورطين فيها. وأذكر أنني ذات مرة -وقد رويت هذه القصة كثيراً- جلست مع أحد "المجاهدين" في مكتب حكومي في بيشاور، في الأيام الأخيرة للجهاد الأفغاني، وعقب حرب تحرير الكويت، فوجدته يصر على عدم الاعتراف ب "المملكة العربية السعودية"، مرتضياً لنفسه تسميتها "جزيرة العرب". وهناك اطلعت على مؤلفات ورسائل تكفر ما يسمى "الوهابية" والسعوديين عموماً، وكان أشهر كتبتها شخص يمني يكنى "أبو الموت"، وهو أيضا ممن قدم للجهاد الأفغاني. هناك وعلى مدى أكثر من عشر سنوات، لم يكن للمجاهدين العرب دور بطولي يذكر بقدر ما كانوا عالة على الأفغان الذين ذكروا غير مرة أنهم ليسوا بحاجة إلى الرجال وإنما إلى المال والسلاح والدعاء. والمجاهد السعودي الذي تنكر لبلاده جاء في اليوم التالي للحصول على تزكية موجهة لأحد مسؤولي وزارة المعارف آنذاك للعمل في التدريس، وهو خريج كلية العلوم بجامعة الملك سعود. الفترة الطويلة التي قضاها الشباب السعوديون في مضافة الأنصار التي تتبع أسامة بن لادن والمسامرات مع غيرهم من المجاهدين العرب شككتهم في ثوابت الدين، وفي دولهم أيضاً. وتلك الأفكار التي سمعوها للمرة الأولى صادفت مناخاً نفسياً مواتياً تمثل في الحالة الشعورية التي يعيشونها، حيث هم عند أهليهم مجاهدون، وفي الواقع يخدمون في الخطوط الخلفية وبخاصة اللوجستية، ويعملون وسطاء بين الأفغان وعلماء ومانحين سعوديين، ومن جانب آخر يتوقون لما يتردد على مسامعهم من كرامات الجهاد ولا يجدون إلى ذلك سبيلا، مما جعلهم يثنون الركب في مجالس المنظرين العرب للتكفير والثورة من الذين تقطعت بهم السبل مع بلدانهم الأصلية. الآلاف من أولئك الشباب عادوا مدججين بقناعات غير التي ذهبوا بها، وبحالات شعورية وعاطفية مغايرة تماما للتي كانت تسكن جوانحهم قبل تلك الدروس المكثفة. وبالمثل فإن التغير العميق الذي حدث في نفوس الشباب في تونس ومصر على سبيل المثال والذي قادته مؤسسات المجتمع المدني المدعومة خارجياً من خلال دورات وبرامج وأكاديميات التغيير، وبعض وسائل الإعلام العربية التي أسهمت بقوة في تشكل الأفكار والمشاعر وفق شروط جديدة أدى في نهاية المطاف إلى "الربيع العربي" الذي ولد من رحم الشحن الفكري والعاطفي الكبير في بيئة محفزة للاشتعال. ومنذ عام 2011م تضاعف حجم المدخلات عشرات المرات بفعل شبكات التواصل الاجتماعي التي تفخخ العقول والعواطف بأفكار صادمة شكلت مواقفهم من الدين والدولة. دول ومنظمات إرهابية استفادت من هذه الوسائل التي لا يملك أحد التصرف في محتواها غير المرسلين له، فوضعت أجندات التغيير المرغوبة التي تحقق مصالحها في تغيير الأنظمة أو الهيمنة أو إعادة رسم خريطة المنطقة ودفعت بها تحت مسميات جذابة منها الديني ومنها القيمي وتلك المتعلقة بالحريات وأساليب الحكم الرشيد، ووفرت كل العوامل المساندة للسيطرة على عواطف الجماهير من أجل التسريع بثورات أو انقلابات تعصف بالدول وتغير الأنظمة. التساهل الكبير في رصد وتحليل وإدارة المحتوى على شبكات التواصل الاجتماعي سببه الرغبة في توفير متنفس يعبر من خلاله الناس عن وجهات نظرهم، أو عدم يقين بعض من يهمهم الأمر بخطورة ما يتم تداوله عبر شبكات التواصل الاجتماعي على الأمن والاستقرار واللحمة الوطنية. هذا التساهل ربما يعود أيضاً إلى القناعات التقليدية بأن الأحداث الظاهرة هي التي تشكل القناعات والمشاعر الكامنة، وهو معتقد تجاوزه الزمن كما أسلفنا. وفي الختام فإنني لا أرى بداً من مراجعة السياسات في التعاطي مع الحراك الجماهيري الضخم على شبكات التواصل الاجتماعي. وأنا هنا لا أطالب بالحجب أو الإلغاء وإنما أحفز على مبادرات حقيقية تدرس وتراقب حجم التأثير وسرعة وتيرته والإسهام في إدارته بما يحقق المصالح العليا حتى لا نؤخذ على حين غرة.