بمجرد قراءة واحدة يستطيع القارئ أن يلمح ثلاث دوائر تلعب داخل «بنات الرياض» اثنتان في فضاء الضوء، يمكن أن نسمي إحداهما «المتن» دلالة على الحكاية/ الحكايات، والأخرى «الهامش البارز» دلالة على مقدمات الرسائل، أو لنقل كلام الراوية، والثالثة في فضاء الظل يمكن أن نسميها «الهامش المستتر» دلالة على ماتخبئه الحكاية أو يكنه الخطاب، ويكشفه التأويل والقراءة. وعند الاشتغال في مقدار التعالق بين تلك الدوائر، والنظر في توافقها في الطرح الموضوعي نضع أيدينا على خلل كبير وقعت فيه الكاتبة، ونقدر أن يكون هذا الخلل سبباً رئيساً في ضعف الرواية على المستويين الموضوعي والفني، هذا الخلل هو التضارب الذي لم يقع على مستوى السرد فنحيله إلى الحكاية، وربما إلى رغبة الكاتبة في المراوغة، والتوراي، خشية المجتمع، وإنما وقع على مستوى «الهامش البارز»، الذي يحكي خلفية الكاتبة الفكرية بوضوح تام. وتضارب من هذا النوع مؤشر ركاكة، ذلك أن الروائي إما أن يحدد موقفه من الرواية فيكون معها أو ضدها، وإما أن يترك الحكاية تنساب على قلمه كما ينساب الماء بلا نهاية على سبيل «الديالوجية»، وحين لايكون هذا ولاذاك يدخل في ارتباك عار، يفضحه أمام القارئ الذي جاءه هرولة، ومن الممكن أن يخرجه وعمله من مملكة الرواية الفنية إلى مكان غير ذي زرع. ونحن عندما نقرأ مخرجات كل دائرة على حدة ثم نجمع نتاج القراءة بعضه إلى بعض نخرج بالآتي: 1- وجود نوع من التضارب بين مخرجات الدائرة الواحدة مثال هذا في دائرة الهامش البارز قولتها في الرسالة التاسعة: «وإنما أعرض أمثلة بشعة من الواقع، ولا أرى عيباً في ان أورد عيوب صديقاتي، ليستفيد منها الآخرون ممن لم تتح لهم فرصة التعليم في مدرسة الحياة» ص 68، ثم قولتها في الرسالة العشرين: «لست أدعي العصمة أو المثالية: لأنني لا أعتبر صديقاتي خاطئات، أترفع عن مشاركتهن قصتهن، ما الذي يجبرني على الكتابة عنهن إن لم أكن مؤمنة بهن؟! أنا كل واحدة من صديقاتي. وقصتي هي قصصهن ص 139. الكاتبة فيما مضى تنقل لنا عيوب صديقاتها لنحذرها، وهي نفسها ترتد وترى صديقاتها مصيبات تماماً، وتبين أنها لاتنقل إلا لأنها مؤمنة كل الإيمان بها. وعليه فالكاتبة مارست كتابة الرواية دون أن تحدد موقفاً تزحف به إلى القارئ، وهذا التضارب الخطير كان حاضراً في ذهنيتها قبل الكتابة. واستمر معها إبان الكتابة، وأحسبه مازال حاضراً في ذهنية ما بعد الكتابة. وهو ما تصدقه كل اللقاءات التي أجريت معها حيث أجدها آنا تذكر: الزناد والتغيير، وآونة أخرى تذكر: التطلعات، والغرور... ومن هنا تطرق الضعف في أبسط صورة- إلى الرواية، ذلك أن الرواية- كما ينبغي أن تكون، وكما هي في الأصل- مشروع فكري ينهض بتناقضات الحياة، ويفكك تركيبتها المقعدة، ويعتمد- أولاً- على ما يشبه التجربة الشعورية في الشعر، أو ما يسميه البعض «الموقف» و «اللحظة الضاغطة»، ثم يأتي بعد دور التجربة الأدبية (فنيات الرواية) التي تقابل التجربة الشعرية (فنيات الشعر)، وحين تقوم فنيات الرواية على غير موقف معين يبرز فيها التكلف، والتعسف، والانفصال المزري بين الكاتب، والكتابة، وكذلك حين يحضر الموقف/ الموضوع بوضوح في ذهنية الكاتب، وتغيب عن قلمه الفنيات، يخرج العمل مصاباً بالشلل النصفي، يحمل الشفاء، لكنه لا يملك طرائق استخراجه فكيف إذا غاب الموقف تماماً، أوحضر بصورة مموهة مضطربة، وتخلفت التجربة الأدبية بأبرز مستوياتها؟! إن العمل- وقتها- يتأخر على مستوى الحكاية، والخطاب... ولا يمكن أن يكون ثقيلاً إلا في ميزان النقد الخفيف.وعدد من أساتذتنا النقاد اتخذوا الأسنة مركباً حين فسروا النقد السلبي للرواية بأنه نتاج ثقافة مختلفة لم تعتد على تعرية الذات ونقدها، واقعين فيما يحذرون منه، لأنهم لم يتعودا إلا على نقد يعادل في مورثنا المديح، والفخر.. وإننا حين نكشف خلل «بنات الرياض» لا نستحضر في أذهاننا إلا النص وحده، واختلافنا معها ليس في الموضوع، ولكن في موقفها من الموضوع الذي تطرحه، وفي طريقة عرضها له، غير مخفين إعجابنا بجزئيات عالجتها الكاتبة بعفوية بعد أن التقطتها بذكاء، ومن تلك الجزئيات: (الجميع يعتبرونني فتاة سيئة لمجرد أن والدتي أمريكية)، (لماذا ينظر المجتمع بهذه الصورة إلى المطلقات)... وجزئيات أخرى... 2- وجود نوع من الانفصال بين دائرتي «المتن» و«الهامش البارز» بحيث أصبحت الرواية بين خطين أحدهما للحكاية، وثانيهما لتوجيه الحكاية... ففي الوقت الذي يسرد فيه «المتن» حكايته، نجد «الهامش البارز» يطرح عدداً من المعالجات التي لاتمت لمطروح «المتن» بصلة من مثل نقد الكاتبة للشعراء الحداثيين الذين يكتبون قصيدة من ثلاثين بيتاً تتحدث عن لاشيء، ونقدها لمدينة الملك عبدالعزيز التي تعتمد على قاعدتي سد الذرائع، ودرء المفاسد في إغلاقها لكثير من المواقع، ونقدها كذلك لغياب العنصر النسائي في فن التمثيل من خلال تخيير المجتمع بين شيئين: أحدهما الاستعانة بممثلات خارجيات فتكون التضحية بالحوار ذي اللهجة السعودية، وثانيهما: إسناد الأدوار النسائية إلى شبابنا فتكون التضحية بالقيم، وبالمشاهدين. هذا بالإضافة إلى تلك الإشارات المتفرقة التي تكشف عن سير ذاتية النص بشكل أو بآخر وانفصال (الهامش البارز) عن (المتن) بهذه الصورة يجعل النص شبيهاً إلى درجة كبيرة ب (سواليف) المجالس، ولعل مما يؤكد ذلك انختام الرواية بكفارة المجلس (دعاء الحش) دلالة على حضور (المجلس) مكانا، و(الشفهية) أسلوب خطاب، في ذهنية الكاتبة قبل الكتابة، وحينها، وربما بعدها... 3- اندماج «الهامش البارز» في «المتن» تحت مظلة موضوعية واحدة، ورغم مجيء هذا الاندماج بشكل بدائي من مثل الرسالة «25» إلا أنه مطروح المتن بشكل لابأس به. وإذن فالرواية بين «اندماج» و«انفصال» و«تضارب» وكل ذلك على المستوى الموضوعي، مما يكشف- كما أسفلت- عن رؤيوية غير واضحة في ذهنية الكاتبة تجاه الموضوع الذي همت بمعالجته، تائهة بين (الاندماج) معها، و(الانفصال) عنها و(التضارب) معها، ولو أن الكاتبة فرغت من تحديد «الرؤية» قبل ممارسة الكتابة، لحققت لعملها جزء «الأدبية» الأكبر على الأقل، وحين تنطلق في تحديد رؤيتها من مرجعيتها الدينية، وتقاليد المجتمع السامية تكون قد جمعت لشرف «الفن» شرف «الموضوع»، وهو ما نرجوه لها في روايتها القادمة. لغة الرواية: أحسب أن الرواية- في أصلها- حكاية لغوية، أولغة حكائية، بمعنى أنها «إنشاء عالم أدبي قوامه اللغة، ولحمته الخيال، وشخصياته ورقية» (انظر: مرتاض، في نظرية الرواية، ص121) وواقعيتها إنما تظهر في وقوع الحكاية، أو إمكانية وقوعها «وليس في نقلها الدقيق لما وقع، بدرجة الحدوث، وذات الشخصيات، والخلفيات... فإنها تكون بذلك تاريخاً صادقاً انكتب بأسلوب قصصي... لتبقِى كالمعلقة لا التاريخ يعترف بها، لأنها لاترقى إلى مستوى دقته، وصرامته، وواقعيته، ولا الأدب يعترف بها لأنها لاترقى إلى مستوى جماله، وخياله، والعمل بلغته، ثم لأنها هي نفسها تنكرت للأدب بهذا السلوك الذي يحمل مركب النقص إزاء وظيفة الأدب اللغوية الجمالية» (انظر: السابق ص 121). وإسقاط اللغة من حساب المبدع، ومن ثم الناقد مرحلة أولى لسقوط الإبداع بسقوط مجموعة علاقات إيحائية،وترميزية، وتناقضية- لاتفرزها إلا اللغة- ينبني عليها تشكل عالم المحاكاة من زوايا عدة تمنح القارئ فيما بعد مجالاً للاتفاق أوالاختلاف والتأويل والمشاركة كما منح الكاتب من قبل فضاء واسعاً لتشكيل عالم الحكي بطريقته الخاصة. (انظر:يمنى العيد - فن الرواية العربية 56). وبإخفاق «بنات الرياض» في التعامل مع الإبداع الروائي من خلال هذا المنظور كان سقوطها الثاني- والأبرز- الذي أخرج العمل من كونه أدبا إلى أن يكون تاريخاً لحكايات تجاهلها التاريخ، وجهلها الناس، وتبقى رغم ذلك عاجزة عن الصعود إلى التاريخ وعظمته، أو درجة إيمان الأناسي. ورغم اقتصار الكاتبة في استدعاء العاميات على الحوار، لتحقيق الواقعية- كما تزعم- إلا أن هذا الاستدعاء البدائي انتقل ببساطته، أو طلب بساطته إلى السرد الذي التزمت فيه الكاتبة باللغة العربية المكشوفة، والتي لم تسلم- على امتداد الرواية- من الأخطاء النحوية العارية، والإسقاطات العامية، واللاعربية... وبذلك جاءت الحكاية/ الحكايات خاوية على عروشها،ليس فيها ما يزينها من الكثافة اللغوية، والتكرار الجمالي، وغيرها، ولعل توظيف الكاتبة لتقنية (الإنترنت) كان سبباً في انكسار لغة العمل بهذه الصورة، حيث انها استحضرت واقع تلك التقنية بسلبياته المتمثلة في فوضوية النشر،وضعف اللغة، وركاكة الأسلوب،وعادية اللغة أحيانا، ثم أخذت تكتب- ربما- في ظل الواقع، وتأثر العمل بهذه التقنية على هذه الصورة- طلباً للواقعية- يخرجه من كونه موظفا لها- بكسر المشدد- إلى أن يكون موظفا لديها- بفتحه-، وبوقوفنا على هذا- من خلال اللغة- يظهر طرف من سقوط نقدنا الذي لا يفرق بين توظيف الشيء، والتوظيف فيه، ذلك أن سطحيته علمته أن مجرد ذكر التقنية في النص يعد توظيفا جماليا من شأنه الرقي بالعمل الأدبي إلى برج الخلود. ومع أن لغة الرواية جاءت على مستويين: الفصحى الباهته، ومكانها السرد، والعاميات، والإنجليزية ومكانها الحوار، وخليط منهما في هذا وذاك، فإن القارئ لا يجد نكهة جذابة في هذا التنوع، وهو ما يشترطه البعض، كما لا يجد مؤدى إلى الإفصاح عن حياة متشابكة، وهو ما يشترطه آخرون... وتميز الرواية الفنية الراقية إنما يكمن في لغتها التي تتوزع على مستويات، دون أن تشعر القارئ بالاختلال المستوياتي في نسجها، وذلك عن طريق الإبقاء عليها في مستوى فني عام على نحو ما (يمكن أن تطالع هذا الرأي عند مرتاض في السابق ص 128) وحين أتجاوز الرواية بدائرتيها المرئيتين، وبنائها الفني، إلى (الهامش المستتر)، وأمضي في البحث عن البئر الذي نبعث منه، أجدني مشدوداً إلى الكتابات المحلية الموصوفة بالتنويرية، حتى ظهر لي أن هذه الرواية نتجت عن قرائية غير دقيقة لمنتج التنويري المحلي، ولعل في ركون (قمرة، وسديم، وميشيل، ولميس) إلى (أم نوير) ما يكشف عن ركون الكاتبة إلى العقلية التي أنتجت هذا التنويري الذي يخاطب الذهنية السعودية، ليكون مشكلاً رئيساً للثقافة التي تستحضرها الرواية، أو تشير إليها، وهذا ما يفسر استدعاء شخصية (أم نوير) من خارج الوطن، في إشارة سريعة منها إلى عدم تمكن هذا الطرح من تركيبتنا الثقافية، ومن تردد (نوير) بين (الذكورية) و (الأنثوية)- كما هو معطى الرواية- وسعي الأم إلى معالجته، وإبقائه على ذكوريته، يمكن أن نقرأ تردد الكاتبة في تحديد موقع هذا المشروع- الذي تبنته دون استيعاب، كما بينا- هل هو في دائرة الصواب الذي يعادل الذكورة، أو الخطأ الذي يعادل الأنوثة، وسعيها إلى الاستقرار على الرأي الأول... وهو مظهر ثان من مظاهر ارتباك الرؤية الكاتبة ل «بنات الرياض» كما يمكننا أن نقرأ: ميل الكاتبة إلى الطرح التنويري، على أنه الأجدى في حل مشاكل هذا العصر، ولقد تمثل هذا في انتصارها لذكورية (نوري) على أنثويته، وكأنها تفضي في آخرة العمل بالإشارة، إلى قوة احتمالية صواب هذا الطرح على احتمالية خطته، كاشفةً عن استقرارها الرؤيوي في المستقبل، ونقدر أن يتجلى هذا الاستقرار في عملها الآتي.. وأخيراً: هذه وقفة سريعة على أبرز ما يحسب ل «بنات الرياض»، وأبرز ما يحسب عليها، وكلي رجاء بأن تستوعب «رجاء» الدرس الذي تعلمته في قاعة روايتها الأولى، لتوظفه تنظيراً،وتطبيقاً في روايتها الثانية.. وإننا لننتظر منها ومن مثيلاتها الكثير، والكثير، لدينها، ووطنها. * باحث في الرواية النسائية السعودية