فجأة ظهرت «بنات الرياض»، لتعيد إلى التوقد ما ترمد من جمر «الفردوس اليباب» محدثة في الصف الإبداعي حركة تشبه السكون، شارك فيها ناقدون ومتناقدون من على منبر التلفاز، ووريقات الصحيفة، بأساليب متفاوتة جلها عميق في سطحيته، لا يملك ما يبرر وجوده لساعة أو ساعتين من نهار. وفي ظني أن أبرز ما يحسب ل «بنات الرياض» إسقاطها لشيئين كانا صاعدين فينا بقوة، أحدهما: مقولة النقد الحديث: إن إبداع المرأة كان ومازال يعاني من التهميش الناتج عن سيطرة النقد المذكر، الذي لا يحفل بغير إبداعات الجمل البازل أو الديك الذي يعرف كيف يصيح، حتى كأنها مع «بنات الرياض» - ومن قبلها «الفردوس اليباب» - كذبة نسجتها نسوة القرية ثم حصحص الحق وانجلى.. وأنا هنا لا أنكر تلك التهميشية التي جثت طويلاً على صدر الإبداع النسائي عبر مراحل متعددة من تاريخنا الأدبي، كيف؟! و هذا ديواننا الشعري الصائت استوعب كل الشعراء الرجال، ومن أبدع منهم في صياغة الركاكة والتهلهل والسذاجة، وأغفل - في المقابل - شاعرات رائدات، لربما حوت إبداعات بعضهن ألف جرير، وألف أخطل.. لكنني أراها متكسرة تحت قدمي الواقع المرتبك الذي أضحى يلف بجناحيه كل صوت ترسله أنثى - غناءً كان أو تجشؤاً - ليطير به إلى سماوات النقد المنهجي. ورفوف الإبداعات الأصيلة، مما لم يحفل به - أو بشيء منه - نتاج آدم هذا الصباح.وهكذا - نحن في نقدنا - لا توسط بيننا، إن لم تلقنا في مجلس الحي ففي الحوانيت تصطد. لا نكتشف أدواءنا بأنفسنا، وإذا ما فعلنا - بعد أمة - شمرنا عن سواعدنا ورحنا نداويها بالتي هي الداء.. وإنها - عندي - بوادر تشي بظهور تهميشية جديدة ستكون من نصيب جمالنا البزل. وليس هذا من قبيل الحدس المتكئ على خوف الثقافة السائدة من مغبات تعرض الجسد/ النص المذكر، لمخاطر الأنثى ملهمة النقد الجديد كما يحسبه أستاذي الغذامي. وثانيهما: خطابنا النقدي الذي رفع من شأن هذا العمل، وقال عنه ما ليس ليس فيه، وضم إليه ما ليس منه، وقارب أن يجعله أنموذجاً يحتذى في عالم الرواية الفنية المحلية.. وآلمني أن ساهم عدد من نقادنا الكبار، ومبدعينا الذواقين في صياغة هذا الخطاب المتداعي، دون الاستناد إلى آليات نقد جادة، أو مقنعة على الأقل - باستثناء الدكتور الغذامي؛ لكونه باحثاً في النسق الثقافي من حيث البدء.. وهذا الخطاب الفوضوي المستثنى منه ليس يتيماً في صحراء النقد العربي، بل هو من نسل خطابات كثيرة كلما ذكرنا بها ظلت وجوهنا مسودة.. ومن منا لا يعرف - بعد أن هدأ الغبار.. أن ما أصاب «شوقي» من القدح لم يكن نقدا؟ وأن ما أصاب «شكري» من المدح لم يكن نقدا؟ ومن منا يسطع أن ينكر أن من دونهما آخرين وآخرين، هنا وهناك. طالهم نقد مكب على وجهه لم يرتبط بنصوصهم، ولا بشيء من مكوناته قدر ارتباطه بذواتهم. وتوجهاتهم الفكرية. إن مصيبة نقدنا الأولى تكمن في خضوعه الكبير لرؤية الناقد الفكرية لمخرجات الدين، والسياسة، والمجتمع، وتناغمه الحياتي مع المبدع، و نفوره منه، حتى لقد قال أحدهم عن الشاعر القيثارة نزار قباني - مستدعيا ساعات الإخاء التي قضاها بالقرب منه: «إنه كان شاعراً محافظاً». واستعيدوا - إن شئتم - من الجهة المقابلة ما قيل - في حدودنا - عن «دفء الليالي الشاتية»، وما قيل- في حدودهم - عن كل إيداعات «الكيلاني»؛ لتستبينوا حدود فوضوية النقد الذي يساير إبداعاتنا، ثم وازنوا - إن شئتم - بين ما قاله نقدنا الروائي في «امرأة على فوهة بركان»، وما قاله في «بنات الرياض» حيث استدبر الأولى وقال: «تعليمية ساذجة» واستقبل الثانية وقال: «فتح كبار في مجال الرواية المحلية».. وإن كنا لا نختلف معه في حكمه على الأولى، فإننا لا يمكن - احتراما لمنهجية العصر - أن نتفق معه في حكمه على الثانية، ذلك أن العملين متشابهين إلا على ذي عمى.. فما قد تمخضا عن قلم نسائي، والتفا بعباءة المرأة موضوعاً خالصاً، واتخذا «الجرأة» مركباً في المعالجة - على اختلاف بينهما -، ويبقى الشكل فيهما بعيداً كل البعد عن صنعة الرواية الفنية على أكثر من مستوى.. فكيف - يا ترى - تغير خطاب الناقد الواحد في تعامله مع النص الواحد؟! إن الإجابة على هذا السؤال المشكل بصدقية تامة ستكشف لنا عن أن النقد الذي تناول العملين - وعداهما كثير - لم يقرأهما، ولم يقرأ عنهما، وإنما وجد في أحدهما ذاته رؤيته فمجده، ولم يجدها في الآخر فحقره.. و ما من غرابة في ذلك ما دامت ذواكرنا تحتفظ بشيء من الصخب الذي صحب رواية «حيدر» حين أعيدت طباعتها حيث أصبحت بين طرفين أحدهما يهوي بها في مكان سحيق كما فعل «فؤاد» في الإلحاد يخلع أقنعته، وآخر يرفعها إلى حيث تستلقي السماء ذات الحبك كما فعل «النمنم» في «وليمة للإرهاب الديني».. وقد لا أكون متزايدا إذا قلت - بعد قراءة عجلى -: إنهما لم يتعالقا مع النص إلا بعد أن اتخذا فيه رأياً منسلاً من عباءة فكرية محضة، ولم تكن ممارستهما النقدية - أقولها تجوزا - إلا بحثا عبثيا عن مؤشرات تمنح ما قالاه شيئا من مشروعية الوجود في الساحة الأدبية وليقال هما ناقدان، وقد قيل.. وفيما بعد هذين نجد الرواية نفسها بين (نفعيين) و(فنيين) على حد وصف الدكتور الحارثي، يسلط كل طرف ضوءه على ما يعنيه، بحثا عن نصير فني لمذهبه! وما قيل عن «بنات الرياض» في مجمله لا يعدو ما قلته سلفا، فهو نتاج اندماج حميمي بين «المبدع» و«الناقد» ليس على مستوى مدرسة فنية، ولكن على مستوى الموضوع/ المطروق أو لنقل: الرؤية الفكرية، وربما وسيلة المعالجة لذلك تراه - أي القول النقدي - يخب في أودية التبريرات ويضع، يلتقط كل مطروح في الطريق على أنه من جوهر النص، ومن أركان نجاحه، ولا أدل على ذلك من اتكاء بعضهم - جهرا - على «البعد الجماهيري» في قولهم بتميزه، ذلك البعد الذي أسقطوه من حسابهم - وهم على حق - حين قدحوا في شعرية بعضٍ، وأدبية آخرين. لقد نبعت «بنات الرياض» من أنامل الأستاذة «رجاء» في الوقت الذي تتعرض فيه المرأة السعودية للتشريح الغرآئبي على مستويات كثيرة ليس الأدب إلا واحداً منها، وجاءت تحت كلمة مثيرة «بنات»، - هكذا بالجمع - مضافة إلى مكان مثير «الرياض»، ثم فوقت من عظمتها - تجوزا - أسطر جاد بها قلم الوزير المثير رغم كونها أسطراً باهتة، تفوح منها رائحة اللارائحة، هذا بالإضافة إلى كونها توزع في السر، وتباع تحت ضياء الليل، في لفافات ورقية ربما..، مصحوبة ببرنامج دعائي إنترنتي قاده مجموعة من الشبان والشابات.. كل ذلك شكل للرواية قاعدة جماهيرية فريدة، التقطها بعض نقادنا، وبنوا عليها تميز النص دون أن يزنوه بميزان «الأدبية»! ثم إن كثيراً مما كُتب عن «بنات الرياض» من قبيل قصائد المديح النثرية، حيث تجد في امتداده نبض الوجدان، وفوضى الانطباعات، مما لا يزن جناح بعوضة في ميزان النقد المنهجي. وإن أبرز ما يحيل إليه ناقدوها (جرأتها)، التي أدخلتها - هكذا قالوا - عالم التمرد الروائي.. وليست كذلك.. فثمة فرق بين رواية فنية تقف في وجه المجتمع، ورواية أخرى تحكي ضديتها بضدية فنية مماثلة، تكون الأولى رواية تمردية، وتكون الثانية تمرداً روائياً، هذا بالقياس إلى منجزنا النقدي الذي فرق بين رواياتنا الأولى فهذه «فنية» وتلك «تعليمية» غير عابئ بتعانقهما الموضوعي.. والنقاد الحصيفون يفرقون - بعد تجارب كثيرة - بين جرأة «الفكر»، وجرأة «اللفظ» يعمد إلى الأولى - غالباً - من لهم قدم صدق في فنيات الرواية، والذين يعلمون أنها الرسالة، في حين يعمد إلى نظيرتها - غالباً - كل طاعم كاس. وجرأة «بنات الرياض» - أولاً - من قبيل جرأة «الألفاظ»، والألفاظ دوال، لذلك احتفلت بها ساحات الشبكة، وأخذت تبرز عدداً من مقاطعها الجريئة لتغري بها، ولقد تمثلت هذه الجرأة في اختيار الكاتبة الذكي لعنوان الرواية بدقة متناهية محققة في كلمتين البعد الجنسي «بنات»، والبعد المكاني «الرياض» مستحضرة الفرق الكبير بين مجيء البعد الأول مفرداً «بنت» ومجيئه مجموعاً «بنات»، وبين إطلاق جمعيته بالإضافة «بنات الرياض» وتخفيفه بالإحالة إلى الجر «بنات في الرياض»، ونحن عندما نمنحها وصف الذكاء في اختيارها للعنوان، إنما نستدعي هدفها من ذلك ألا وهو «استدراج» القارئ، والحصول على انتباهه كاملاً ونجاحها إنما يكمن في بلوغها ذلك الهدف، الذي أسقط واقعية الرواية لدى الباب، أو هكذا نظن.. ثم تظهر جرأتها - ثانياً - في تلك الألفاظ، والجمل المغطاة، التي وزعتها بالتساوي على محطات الرواية المتن.. وهذا ما عول عليه كثير من المتابعين، نقرأ: «قد لا تكون الرواية قفزة كبيرة ونوعية في المجال إذ لا يزال في لغتها الكثير من الإيحاء ولاسيما حينما يتعلق الأمر بالجنس.. وهي مسألة قد لا تكون نابعة من قلة الجرأة أو قد تكون كذلك، فربما هي طريقة مغايرة في التعبير.. لكن في الإجمال يمكن القول: إنها تجربة أولى واعدة لكاتبتها علها خطوة تمهيدية لتمردات أخرى لاحقة أعمق وأكثر انتهاكاً لكن الأكبر انها تدخل في إطار أدب عربي جديد تنجح العولمة في التقريب بين كل متفرعاته بعدما باعدت بينه طول عقود الأيديولوجيات الوطنية والقومية» (النهار 17/ أيلول/ 2005م). وبناء على هذا النقل الذي يمثل عشرات الكتابات تكون جمالية (بنات الرياض)، وريادتها - عند البعض - في الارتقاء باللغة المعبرة عن الجنس من الانعدام أو الوجود المنعدم - في خريطة إبداع المرأة السعودية - إلى الوجود الإيحائي الذي يؤذن بانبثاق مرحلة روائية سعودية تحمل لغتها - فيما يتعلق بالجنس - طابع الوجود الواضح، ويكون ل «بنات الرياض»، فضل انبثاقها، لكونها قدمت خطوة تمهيدية نسائية هيأت لتمردات أخرى أكثر انتهاكاً. ومعلوم ان الحديث عن الجنس بلغة مكشوفة، وبأسلوب بوحاني عار، لا يعوز موهوباً، ولا دعياً، ولا يشف مهما صعد إلى أسفل عن تفكير عميق، ولا سطحية كذلك، إنه لا يعدو أن يكون اطناباً في مواطن لا يصلح فيها إلا الإيجاز، وكلاماً في دائرة لا تحفل بغير الصمت.. وعنصر هذه صفته، لا يمكن أن تنبني عليه جمالية رواية، أوحتى تميزها.. إلا إذا كان النقد شللياً.. ولا تقف جرأة اللفظ في «بنات الرياض» على الانكشاف فيما سبق، بل تجاوزته إلى الحدية في تعرية المجتمع.. ومن ثم نقده نجد هذا في مثل هذه المقاطع: «تعلم ان الحب الصادق لا يجد له متنفساً في هذا البلد 104» «مضهد أنت أيها الحب في هذا البلد 113» «قررت ميشيل أن ترحل عن بلد يسوس أفراده كما البهائم 113» «والحب يعامل في بالدها كنكتة خارجة يمكن التندر بها لفترة 208». ومما سبق نلحظ ان جرأتها في نقد المجتمع، تظل لفظية، وان تزيأت بزي الفكرية، ذلك انها لا تتكئ على رؤية، ولا تقف على عمق واضح، ولأن أول ما يصدم القارئ فيها اللفظ ليس غير.. وهو نتاج طبيعي لعمل ظهر ولم يبن على موقف، أو شعور، وإنما انبنى أو بُني على قدر الكتابة، وتشظيات الحلم، حتى كأنه الكتابة من أجل الكتابة. (يتبع) ٭ باحث في الرواية النسائية السعودية