تعميق المجالات السياسية والدفاعية والاقتصادية تتصدر أعمال القمة الخليجية    ولي العهد يغادر إلى البحرين لترؤس وفد السعودية في الدورة ال46 للمجلس الأعلى ومجلس التنسيق السعودي البحريني    أمير تبوك الميزانية العامة حملت في طياتها الخير والنماء للوطن والمواطن    ضميرية عسيرية حول المملكة وباكستان    الطلاق الصامت.. انفصال بلا أوراق يُربك الأسرة    لو لا تنتهي القصائد .. هكذا تُطوى آخر ليالي نوفمبر مع نجم شاعر المليون عبدالرحمن المالكي    أمير منطقة تبوك يطلع على تقرير عن منجزات وأعمال لجنة تراحم بالمنطقة    القمة الخليجية في البحرين تناقش مستقبل التعاون الاقتصادي وربط القطارات    تراجع أسعار النفط    إطلاق مشروع «نتطوع معًا» لتعزيز ثقافة التطوع والابتكار بجازان    المملكة تقفز بنسبة المناطق البحرية المحمية إلى 61.1 %    القراءة التي لا تتحول إلى إنتاج موقف أو نص تبقى ناقصة نعمل على أن تصبح «أقرأ» منصة عربية مرجعية للقراء الشباب    أمير الرياض يشهد توقيع اتفاقيات بين "الموارد البشرية" وعدد من الجهات    في مستهل مشواره بكأس العرب.. الأخضر يعبر عمان بثنائية البريكان والشهري    الهلال يطلب إعفاء بونو من كأس أفريقيا.. ونونيز يريد الرحيل    اندثار المواهب والحلول لإعادة اكتشافها وصقلها    توطين تقنيات التصنيع الذكي    خطوة روسية – أمريكية نحو حل سلمي للأزمة الأوكرانية    ألقى بابنته من الشرفة لرفضها فسخ خطبتها    «الجوازات»: الهوية الرقمية لا تستخدم في عبور منفذ سلوى    أكد أن مزاعم «الدعم السريع» وهدنته مناورة سياسة.. الجيش السوداني يصد هجوماً على «بابنوسة»    الحوثي يعدم المدنيين بتهم «مزيفة»    مجرد (شو) !!    قبل عرضها على سبيستون    أضخم منصة عالمية للاحتفاء بالحرف اليدوية.. «الثقافية» تمثل السعودية بمعرض أرتيجانو آن فييرا    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    جودة النظام الصحي تسبق مهارة الطبيب    شبه القراءة بالأكل    ألونسو: أهمية مبابي أكبر من أهدافه    السيتي ينجو من انتفاضة فولهام ويقلص الفارق مع آرسنال إلى نقطتين فقط    الجيش الألماني يعلن تعرّض شحنة ذخيرة للسرقة    توجيه تهمة القتل للمشتبه بإطلاقه النار على فردين من الحرس الوطني بواشنطن    العُلا.. وجهة الهايكنغ    نور الرياض    منازل نجران.. تراث أصيل    في جزيرة شورى وزيرا الرياضة والإعلام والإعلاميون.. أمرهم شورى!    ضبط 21134 مخالفًا للإقامة والعمل وأمن الحدود    رصد البقعة الشمسية العملاقة رقم 4294 من سماء الحدود الشمالية    3 ملايين مخطوطة تتصدر حديث ثلوثية الحميد    42% نمو بالإنتاج الزراعي بالباحة    الأسهم السعودية تغلق على تراجع طفيف    البطاطا تقود ارتفاع المنتجات الزراعية خلال أكتوبر    الأخضر يستهل مشواره بالتغلب على عُمان بثنائية في كأس العرب 2025    عنف إسرائيلي متصاعد وسط تمدد البؤر الاستيطانية    انطلاق فعاليات القمة الخامسة لرعاية العيون بمشاركة نخبة من الكادر الطبي    السفراء الجدد يؤدون القسم أمام ولي العهد    حين أوقدت منارتي نهض الصمت فنهضت به    فضيلة المستشار الشرعي بجازان يلقي كلمة توجيهية لمنسوبي القوة البحرية بجازان    رجل الدولة والعلم والخلق الدكتور محمد العقلاء    "الشؤون الإسلامية" تنفذ أكثر من 47 ألف جولة رقابية في المدينة المنورة    طالب جامعة شقراء بتعزيز جهودها في التحول.. «الشورى» يوافق على تعديل مشروع نظام حقوق المؤلف    الديوان الملكي: وفاة صاحب السمو الأمير عبدالله بن فهد بن عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود    «التخصصي» ينقذ طرف مريض بالجراحة «ثلاثية الأبعاد»    البكتيريا المقاومة للعلاج (2)    الكتابة توثق عقد الزواج عند عجز الولي عن النطق    محافظ الطائف يلتقي رئيس مجلس إدارة جمعية أسر التوحد    القيادة تعزي الرئيس الإندونيسي في ضحايا الفيضانات والانزلاقات الأرضية ببلاده    الداخلية: تخريج 99 ضابطاً من دورات متقدمة وتأسيسية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أيديولوجية الإقصاء
المقال
نشر في الرياض يوم 25 - 01 - 2005

في الغالب فإن المحن والملمات التي تحل بالمفكرين تبدأ ولابد لها أن تبدأ من طريق يكاد يكون واحداً في جميع الثقافات التي لم تبرح بعد مرحلة الطفولة الحضارية، والتي لم تُغرس فيها - نسبة لانعدام الروح الفلسفية فيها - ثقافة النزعة الفردية، هذا الطريق يبدأ عادة بتسليط العوام على هؤلاء المفكرين بتقديمهم - أي هؤلاء المفكرين - كنماذج للزندقة والهرطقة وما يلزم عنها بالطبع من لوازم النفاق والعلمنة والكفروالمروق من الدين، وتكون الوسيلة المتبعة عادة في إقناع أولئك العوام بالفكرة المراد نفثها في روعهم عن أولئك الرواد إما باجتزاء نص من نصوصهم عن سياقاتها وهذا هوالغالب، وإما بتقديم تفسيرأيديولوجي إقصائي لكلامهم لقسره ومن ثم حمله على المفردات التكفيرية التي يريد قادة الفكرالديماغوغي إدماجها في الشعورالعامي، وإما تحميل مرادهم من فكرهم أووجهات نظرهم ما لاتحتمله .
يمثل أسلوب اجتزاء العبارات وبترها عن سياقها الماقبءل والمابعءد في النص الأصلي أحد أبرز الآليات الإقصائية في المجتمع ذي الثقافة الآحادية المغلقة، لأن هذا الاجتزاء يمثل أخطروأسرع الطرق نحوصرف النظرعن مورد النص الأصلي ومراميه الكلية ومن ثم إظهارالكلمة وكأنها فحش ومنكرمن القول لايحتمل إلا حكماً واحداً فقط، وعبارات النص بشكل عام لابد وأن تُقرأ في سياقها الكامل وأحياناً لابد من استصحاب سبب النص ومناسبته - خاصة في النصوص المقدسة - لتكتمل إيحائيته، وإلا انقلبت العبارة أوالجزء المنتقى إلى ضده، وفي القرآن الكريم أمثلة على خطورة اجتزاء العبارات وبترها عن سياقها ومناسبتها، خذ مثلاً قوله تعالى في سياق التدرج الإلهي في تحريم الخمر {يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة .. }الآية فلوأجءتُزأِتء عبارة (لاتقربوا الصلاة) لكانت كارثة حقاً، وذلك بأن توحي الآية بتحريم الصلاة بدلاً من إيجابها، ولوزاد الاجتزاء قليلاً ببترعبارة (لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى) لكانت الآية فصلاً في تحريم الخمروقت الصلاة فقط وتحليلها فيما عداها مطلقاً، وفي آية أخرى يقول الله تعالى {يسألونك عن الخمروالميسر، قل فيهما إثم كبيرومنافع للناس وإثمهما أكبرمن نفعهما ..} الآية فلوبترآخرالآية لأفادت بتساوي المضاروالمنافع في الخمروالميسر، أما لوأخفيت جزئية (قل فيهما إثم كبير) وجزئية (وإثمهما أكبرمن نفعهما) لكانت الآية تشيرإلى أن الخمروالميسرمن الطيبات لأن فيهما منافع للناس، أيضاً فهناك الآية التاسعة والأربعون من سورة الدخان التي يحكي القرآن فيها موقف الكافريوم القيامة عندما يفصل الله بين العباد وتطوى الصحائف ويساق هذا الكافرإلى الناربأن يقال له{ ذق إنك أنت العزيزالكريم} فلولم يتطرق سياق الآية الكريمة إلى قصة هذا الكافروموقفه وما سيعطاه لحظتها لكان حريٌّ بمن يقرأها أن يتوقع أن ذلك اللفظ يمثل تكريماً له على جحوده وكفره ولكن الواقع ومن خلال السياق القرآني وحده يتضح أن ذلك اللفظ الموجه إنما يمثل تهكماً وتوبيخاً له لأنه كان متكبراً وطاغياً ومستكبراً نسبة لأنه كان في الحياة الدنيا عزيزاً في قومه وعشيرته قوي الشكيمة بينهم ولكن ذلك لن ينفعه لحظتها عندما يجازيه الله على طغيانه واستبداده وتعذيبه لعباد الله المؤمنين في الحياة الدنيا.
إذاً - أياً كان النص - سواء كان مقدساً أوغيرمقدس يجب أن يُقرأ ويُتماهى معه وفق سياقه الكامل، واستحضارمناسبته واستجلاء سياقاته الماقبلية والما بعدية ليتضح غرض ومقصد قائله، وإلا فيعتبرتعدياً على النص ذاته واعتداءً على قائله واستنطاقه بما لم يقله ولم يقصده، وهناك قصص شتى لمفكرين أدينوا بعبارات مجتزأة من نصوصهم لم يكونوا أصلاً يقصدون ما ذهب إليه المتربص بهم، فمثلاً يروى أن الفيلسوف العربي والفقيه الأندلسي قاضي قرطبة ابن رشد ( 520- 598ه) والذي لُقب ب (المعلم الثاني) لنبوغه بالفلسفة - على أساس أن لقب المعلم الأول كان للفيلسوف اليوناني أرسطو - كان ذا حظوة ومكانة في دولة الموحدين وتحديداً لدى السلطان يوسف بن عبد المؤمن الموحدي الذي قربه منه كثيراً نظراً لأنه - أي السلطان الموحدي - من المهتمين بالفلسفة اليونانية في وقته، إذ عمل ابن رشد وبتوصية من الفيلسوف العربي الآخرابن طفيل على تلخيص وشرح عبارات فلسفة أرسطوللسلطان المذكور، وعندما توفي هذا السلطان وخلفه ابنه أبويوسف يعقوب المنصوربالله زاد من تقريب ابن رشد وتكبيرمقامه عنده، إلا أن الوشاة والحساد لم يرُقء لهم ذلك فألبوا عليه العامة بإدعائهم أنه زنديق وهرطقي بل وكافروأشاعوا عنه عبارات اجتزأوها من نصوص متفرقة له لتنفيذ غرضهم من تأليب العامة عليه، فمثلاً بتروا عبارة من كتابه (الحيوان) يقول فيها - أي ابن رشد لما أتى على ذكرحيوان الزرافة (إني رأيتها عند ملك البربر) يقصد السلطان أبويوسف الذي أغضبه أن ينعت بهذا اللقب، ولكن ابن رشد صحح لهم بعد ذلك بأنه يقصد بعبارته بأنه (ملك البرين) أي البروالبحر، وهذا مشهورفي اللغة العربية مثل قولك (الأبوين) وتقصد بهما الأب والأم ومثل عبارة (المصرين) أي مصر والشام، كذلك عمد هؤلاء الخصوم إلى اجتزاء عبارة من أحد كتبه يقول فيها (إن كوكب الزهرة أحد الآلهة) وفصلوا العبارة عما سبقها وأوهموا العوام بأنه بهذا مشرك بالله العظيم، وأغرب ما يروى في قصة نكبة ابن رشد ما يرويه الدكتورعبدالرحمن بدوي في كتابه (موسوعة الفلسفة) على لسان ابن رشد نفسه قال (دخلت أنا وولدي مسجداً في قرطبة لصلاة العصرفثارعلينا بعض سفلة العامة وأخرجونا من المسجد) وكتب إلى الوالي وإلى مراكش وغيرها من البلدان كاتب الدولة أبوعبدالله بن عياش عن هذه المسألة بقوله (كان في سالف الدهرقوم خاضوا في بحورالأوهام وأقرلهم عوامهم بشفوف عليهم في الأفهام، حيث لاداعي يدعون إلا الحي القيوم (يقصد إنكارهم لباقي أسماء الله) ولاحكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم فخلدوا في العالم صحفاً ما لها من خلاق مسودة المعاني والأوراق بعدها من الشريعة بعد المشرقين وتباينها تباين الثقلين يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها وهم يتشعبون في القضية فرقاً ويسيرون فيها شواكل وطرقاً، ذلك بأن الله خالقهم للناروبعمل أهل الناريعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة وآتت هذه الحملة الدوغمائية الغوغائية أكلها إذ سجن ابن رشد مع جمع من المفكرين في مكان يقال له (أليسانة) وأُحرقت كتبه بأمرمن الوالي وأميتت فلسفته وفكره إلى أن أحياها الغرب بعد قرنين على وفاته، إذ كانت الفلسفة الرشدية من أهم الدعائم التي اتكأ عليها فكرعصرالنهضة الأوروبية ابتداءً من القرن الرابع عشرالميلادي .. هذه هي فلسفة إقصاء المفكرين، عمادها اجتزاء العبارات من النصوص وبترها من سياقاتها، ومسوقوها ومنفذوها هم العوام وأشباه العوام في كل أزمنة الطفولة الحضارية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.