إيه أيها الصديق القديم. ما أقربنا اليوم وما أبعد الذكريات. لقد مر نصف قرن على رسائلنا النبيلة التي تفوح بالعصافير والفراشات والورود و(ما لست أدري!!) كان ذلك في الزمن الجميل حينما كنا نتكاتب عبر الأقطار فترسل لي شجوك الحزين وأرسل لك بوحي القتيل، فيا إلهي كم كنت أستمتع برسائلك الطويلة التي تشي بعبقريتك المبكرة وحسك الروائي الأنيق، بينما كانت رسائلي لك بمثابة نص شعري مفتوح وان كنا آنذاك لا نعرف ماهية النص المفتوح ولا القصيدة الحديثة. وآه ما أجمل لقاءاتنا السنوية حينما تحل عطلة الصيف ونلتحق بالقبيلة الظاعنة في صحراوات الله والتي لم تكن تعرف آنذاك الحدود. وكنت تحمل لي ونحن نلتقي على الآبار لمغازلة الصبايا روايات أجاثا كريستي، فرانسوا ساغان، ديكنز، شارلوت برونتي، فيكتور هيجو، بلزاك، غوغول، وأحمل لك دواوين جبران، رامبو، ايليا أبوماضي، الياس أبو شبكة، فهد العسكر، طاهر زمخشري، الكسندر بلوك، بوشكين، يا إلهي يا إلهي من يصدق أننا في السادس الابتدائي نقرأ هذه الأعمال العظام؟! وأين في الصحراء حيث لا يصلنا بالعالم سوى الراديو (لندن) والذي نتابع فيه ندوة المستمعين (اولغا جويدة) والطيب صالح ونستمع طويلاً إلى أم كلثوم وحينما ينهرنا كهول القبيلة عن الاستماع لهذه (الطنطنات) نقول لهم ببراءة بعدها سيأتي برنامج البادية الذي يعده منديل الفهيد أو سعود بن نوطان من الكويت. فأذكر أننا كدنا ان نتعارك حول رواية تيسير سبول (أنت منذ اليوم) أو رواية (الصحراء جنتي) لكمال سعيد وأذكر حكاياتك الظريفة حينما كنت لدى عمك (الشيخ) تخدمه وحينما هبط عليكم أحد كبار شيوخ البادية في الثالثة ليلاً وأشار إليك بأن تنحر خروفاً للوليمة وكان الطقس صقيعاً ولكي تتخلص من الذبح والسلخ لجأت إلى طريقة خبيثة اذ وضعت حصاة في أذن الخروف وعركتها لكي يثغو ويسمعك الضيف و(يحرّم) الوليمة ويكتفي بالسمن وأذكر ان عمك تنبه لفعلتك تلك وقال لك لماذا جعلت الخروف يثغو ونبهت الضيف؟ وأقسم حينها إن كررت الفعلة سيمسكك من اذنك ويجعلك تثغو كالخروف!! وأذكر كل شيء أيها الصديق القديم، حرتقاتك الكبيرة وكتبك الهائلة وكل التفاصيل في قبيلتنا الظاعنة!! ** إذن لمَ هذا البعد أيها الصديق؟.. لقد صحبت اليابانيين كثيراً وتحول قلبك إلى آلة صماء تماماً كآلاتهم وأصبحت تتعامل مع الأشياء مثلهم ولكنني اكتب كل ذلك وفاء لذلك الزمن الجميل وقبل ان يطوي كلانا النسيان!! (تحية) مني إليك.