وكما رأينا في فعل هاجر من اتصال المرأة المكية بخبر السماء وما اراده الاله الكريم للبشرية وقدره، واتصالها بما شرعه لها من عبادات وشعائر دينية، فلقد ظل ذلك مستمراً مع الرسالة الخاتمة، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فحضرت في اتصالها بالقدر الإلهي لهذه الرسالة، في تهيئة محمد صلى الله عليه وسلم لذلك، فلقد تجلت المرأة في السيرة النبوية ذات فعل مؤثر ينم عما لها من حضور في هذا الامر بما لها من رأي وحصافة، وحسن استقبال لنسائم النبوة واشراقاتها الروحية، ففي الحديث الذي ترويه السير عن مرضعته محمد صلى الله عليه وسلم، نقف عند ذلك السرد الذي يستحضر فعل المرأة ويروي الحديث على لسانها، ونجد التوفيق الالهي الذي صاحب رأي المرأة، حين لم تترك الصبي اليتيم، وقبلت به رضيعاً، يروي ابن هاشم عن ابن اسحق حديث حليمة السعدية مرضعته صلى الله عليه وسلم: انها خرجت من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء، وذلك كما قالت في سنة شهباء لم تبق شيئاً، وتسرد رحلتها فتقول: فخرجت على اتان لي قمراء، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا اجمع من صبينا الذي معنا نمن بكائه من الجوع، مافي ثديي ما يغنيه، ومافي شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على اتاني تلك، فلقد ادمت بالركب حتى شق ذلك ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة الا وقد عرض عليها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فتأباه اذا قيل انه يتيم، وذلك انا كنا نرجو المعروف من ابي الصبي، فكنا نقول: يتيم! وما عسى ان تصنع امه وجده! فكنا نتحاشاه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي الا اخذت رضيعاً غيري، فلما اجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله اني لأكره ان ارجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن الى اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك ان تفعلي، عسى الله ان يجعل لنا فيه بركة، قالت فذهبت اليه فأخذته نوماً حملني على اخذه الا اني لم اجد غيره، قالت: فلما اخذته رجعت به الى رحلي، فلما وضعته في حجري اقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه اخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي الى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين اصبحنا: تعلمي والله يا حليمة! لقد اخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله اني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت انا اتاني، وحملته معي، فو الله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم.. ثم تستمر في السرد الذي يعدد من بركات الرضيع عليها... وهنا نجد اتصال المرأة بقدرته عز وجل وتدبيره سبحانه وتعالى، بتهيئته صلى الله عليه وسلم للحياة، والتهيئة للنبوة والرسالة وما تحتاجه من صلابة وقوة وفصاحة، كذلك اتصال المرأة بالالطاف النابعة من فيض البركة، وتجربتها لذلك، فكأنها في حالة إعداد لتلقي النبأ العظيم عن بعثته صلى الله عليه وسلم، بهذا التلقي لهذا الفيض الالهي بالانعام على هذه الاسرة حين قدر لها ان تختار هذا الرضيع. ولعل حرص السير على نقل هذا الحديث على لسان المرأة يأتي من التقدير لهذا الصنيع من قبل المرأة، حيث يحتفظ هذا النقل بحضور المرأة، ويستريح الى حديثها، ويحتفظ بمشاعرها، حين يستمع الى خلجاتها، ويبث ذلك في اجيال التلقي على مر التاريخ. وحين ننتقل الى فترة شبابه ويفاعه صلى الله عليه وسلم، تقابلنا المرأة التي كونت معه بيت النبوة الاول، بيتاً تتواصل حلقاته مع بيت ابراهيم عليه السلام، ثم مع بيت اسماعيل، وقبل ذلك وبعده مع البيت العتيق، ليتأسس بيت النبوة وفق التكوين البشري الذي يتسامى مع افق النبوة، ومسؤولية الرسالة، فيستقبل فيه البشائر، ويمضي صلى الله عليه وسلم معه وبه الى تلك الامانة.. تقابلنا امام عتبة هذا البيت النبوي الكرم ام المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التي كانت متفردة في حضورها في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لتلك الفترة، فهي كما يصفها التاريخ: امرأة تاجرة ذات شرف ومال، هذه المرأة قُدِر لها ان تقترب رويداً رويداً من النبي، وتأتي خطوات هذا الاقتراب معتادة على نحو ما يدبره البشر، ولكنها حين تقرأ في ضوء مآل الاحداث لانشك في التدبير الالهي الذي يكشف حضور المرأة وفاعليتها في ذلك الحدث الفاصل في تاريخ البشرية.. تقابلنا في هذا التاريخ خديجة بنت خويلد تهب محمد بن عبدالله المال، وتختاره زوجاً لها، وتعايش معه فترة الوحي الاولى، وتطمئنه، وتبشره، وتؤازره، وتنصره. قال ابن اسحاق: كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم اياه بشيء تجعله له، وكانت قريش قوماً تجاراً فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم امانته، وكرم اخلاقه، بعثت اليه، فعرضت ان يخرج في مال لها الى الشام تاجراً، وتعطيه افضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، ولما عاد ورأت أمانته، والبركة في مالها، رغبت ان يتزوجها، فأومأت بما في نفسها الى احدى صديقاتها، التي فاتحته صلى الله عليه وسلم في ذلك، فجعل الامر الى اعمامه الذين ذهبوا الى عم خديجة وخطبوها اليه، وكانت سنها إذ ذاك اربعين سنة. هنا نجد المرأة المكية تقترن بالحدث الفاصل في تاريخ مكةالمكرمة، حين يشرق عليها نور النبوة المحمدية، وتنبعث من جنباتها رسالة الإسلام. هذه خديجة بنت خويلد امرأة ذات شرف ومال، يخرج التجار في تجارتها، ويتسابق السادة الى طلب الاقتران بها، فلا ترضى الا محمداً، وكانت المؤازرة في الرسالة، والباعث على الاستبشار والاطمئنان، وحين يحفظ التاريخ ذلك يشير الى حضور المرأة في التواريخ الفاصلة في تاريخ مكة، وليس اعظم من هذا التاريخ مفصلاً.