"وأنا الذي وطني امتداد الأرض، طول الأرض، عرض الأرض، لكني.. بلا وطن، من ذا يصدقني..!؟" ويوم أمس الأول سقط شهاب مضيء، وواحد من عمالقة كبار، سقط مفكر ومثقف كبير كانت حياته وهجاً من النضال والكفاح في سبيل المعرفة وفعل التنوير النهضوي، أخلص لأمته فقدّم، لها عصارة جهد متفوق من البحث والدراسة، ومعالجة الأوجاع، وترميم الانهيارات، وتحسس الداءات التي تفتك بجسدها، وأعمل مبضعه الحاد من أجل اجتثاثها، وتخليص الجسم العروبي منها. فجعنا بموت الرجل الكبير هشام شرابي. رجل عاش في المنافي. ولد في يافا سنة 1927.أمضى طفولته في عكا. درس في رام الله. أكمل دراسته في بيروت. تابع تحصيله الأكاديمي في الجامعة الأميركية في بيروت. سافر إلى أميركا للدراسة في جامعة شيكاغو. عاد من أميركا، ثم سافر إليها مرة أخرى إلى جامعة جورجتاون. وخلال هذه الرحلة الطويلة، بين المدن، والمرافئ، والسفر، والرحيل، وبين الغربة، والأمل، والشتات، والضياع، وبين حنينه الدائم المخيف إلى عكا حيث كان جده قد نزح إلى بيروت عام 48"ومن هناك كان جدي يتسلل من حين إلى آخر صوب الناقورة ليهمّ بالعبور إلى عكا فيرده أهله، وفي يده مفتاح منزله.." خلال هذه الرحلة المضنية المرهقة صنع هشام شرابي وعياً حقيقياً، وتوغل باحثاً في النظريات الفكرية، ناقداً ومفككاً لكل الحركات الحزبية، كاشفاً زيف الشعارات التي سادت مرحلة من مراحل حياة هذه الأمة، وأسهمت في إعاقة مسيرتها، وشكلت انزلاقات مخيفة في توجهاتها، واستشراف مستقبلاتها. حلم هشام شرابي بتغيير الواقع المعاش، واقع حياة الأمة، وحياة الناس، وحياة الشعوب، وكان يرى أن الخلل الكبير والداء المستعصي يكمن في الأنظمة السياسية التي كانت تنشد ولاء المثقف لا الحقيقة التي يبحث عنها، هذه الأنظمة التي كرست تخلفاً اقتصاديا، واجتماعياً، وفكرياً، وتنموياً. غير أن بطش الأنظمة، وتسلطها، وجهلها، وقمعها لشعوبها، والديكتاتوريات التي تنامت بفضل حكم العسكر في مشرق العالم العربي ومغربه، قضت على حلم هشام شرابي كواحد من أبرز وأعظم المفكرين والمثقفين العرب والأمميين أمثال ادوارد سعيد، وقتلت في داخله تلك الجذوة المتفائلة بانتاج جيل يحمل هموم الأمة، ويتحصن بوعي وإدراك يؤمن بإرث وتاريخ وجغرافيا العرب. مات هشام شرابي وهو يقبض على "الجمر والرماد". فقدنا في هذا الزمن البائس رجلاً كان منارة إشعاع، وفكر، وثورة على الجهل، والفقر، والمرض، والعجز، والهروب، والاتكالية، والتسطيح. تعرفت على هشام شرابي عبر "الجمر والرماد" الذي فضح فيه داءات الفرد العربي، والمؤسسات المدنية العربية، وآخر ما التقيته في مقهى "اتوال" في وسط بيروت. لقد هدَّه الحزن، والقهر، وقتلته الحالة العربية..!؟