المتابعون ل عبد الحليم خدام كانوا يتوقعون أن يحدث هذا الانشقاق منذ أكثر من سنتين في أواخر العام 2003 أصبحت أتلقى رسائل بالبريد الإلكتروني من بعض المواقع والمنتديات المهتمة بالشؤون اللبنانية والسورية، وفي أحيان كثيرة كانت عبارة عن قوائم بريدية يتم إرسالها بشكل شبه يومي، وأغلبها باللغة الانجليزية، اكتشفت بعد حين أن صحفياً صديقاً لي ضم بريدي إلى تلك القوائم. في البداية لم أكن أهتم بتلك المواد أو قراءتها ولكن حين بدأ السجال السياسي حول اتهام أنصار الحريري برشوة الناخبين بتوزيع الزيت بدأت أتابع ما يصلني، كان واضحاً أن الوضع السياسي في لبنان بات يأخذ منحى جديداً. أعقب ذلك محاولة اغتيال النائب مروان حماده ثم اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، وتوالت الأحداث بعد ذلك. بعد اغتيال الحريري كان هناك أكثر من أربعين موقعاً على شبكة الإنترنت تتناول أحداث لبنان ساعة بساعة. هذا المناخ خلق حالة من الشائعات والأقاويل التي لا حصر لها تردني بشكل يومي عبر البريد الإلكتروني. شيء ما لفت انتباهي في خضم تلك الأحداث من واقع ما كنت أقرأه: رغم الانتقاد الشديد لسوريا كان هناك صوت لا أقول متعاطفا مع نائب رئيس الجمهورية السورية السابق عبد الحليم خدام، بل متفهم ومبرر لمواقفه وتصريحاته. ورغم أن خدام لم يسلم من شتائم المتظاهرين له أثناء زيارته لمروان حماده في المستشفى، ولبيت الحريري معزياً إلا أنه كان المسؤول السوري الوحيد الذي تجاسر على القيام بالواجب. ولهذا دافعت مجلة الشراع اللبنانية تحت عنوان «أبوجمال القديم الجديد» في يونيو الماضي عن خدام بوصفه غير مسؤول عن تدهور الأوضاع في لبنان. فاجأ عبد الحليم خدام الجميع لاسيما السوريين بظهوره على قناة «العربية» في حوار أقل ما يوصف به بأنه تاريخي، وقل نظيره في تاريخ السياسة العربية المعاصرة، والسبب يكمن في أنه من النادر أن تذاع دواخل السياسة للجماهير في المنطقة العربية إلا بعد سنين وبشكل مبتور لا يراد به إلا استجلاء العواطف الشعبية، أما في هذه الحادثة، فرجل الشارع يستطيع أن يفهم كيف تدهورت الأمور، وساءت الأحوال من ألسنة الساسة الذين هم اليوم على مسرح الأحداث. ولكن هذا الظهور وتلك القصص التي رواها عبد الحليم خدام لم تكن سراً يذاع اليوم فقط، فهناك في لبنان وخارج لبنان من كان يدرك تفاصيل هذا الحدث وما يحيط به، على سبيل المثال حوت تلك الرسائل الإلكترونية التي كانت تصل للكثيرين بشكل يومي جملة قد تقارب ثلاثة أرباع حوار الرئيس عبد الحليم خدام، فائدة حوار «العربية» لي ولغيري في أنها أكدت طبيعة تلك الشائعات والأقاويل لترتقي لمستوى الحقيقة. وأظن بأن خدام قد قدم لنا جميعاً الكتيب الذي يحوي الشفرات الخاصة لتفسير وشرح الحوادث المتلاحقة، أو بمعنى آخر خارطة طريق للحدث برمته. بيد أن عبد الحليم خدام لم يشأ أن يقول أشياء أظن بأنها كانت ستزيد من وضوح «لماذا قام بما قام به؟»، هل صحيح أنه قام بذلك من أجل الديمقراطية الغائبة، أو بسبب من تعطل مشروع الإصلاح، أو تردي الأحوال الاقتصادية .. لا أظن أن ذلك صحيح. ولكن في ذات الوقت بوسعنا أن نستشف الصدق لتاريخه السياسي الطويل، فهو كان براجماتياً مع كل مرحلة سار بها حزب البعث، وكان يشارك الرئيس الراحل حافظ الأسد خاصية الاستيعاب للأحداث والأزمات، وهو كان يأمل أن يسلك الحزب اتجاه الانفتاح الاقتصادي والسياسي التدريجي الذي بدأت بعض دول المنطقة الأخذ به، هو وغيره ممن يوصفون بالحرس القديم كانوا يعون سقوط الشعارات الحزبية القديمة، ويأملون أن يتحول الحزب بذكاء للمحافظة على مكاسبه الفئوية والجهوّية بتقديم تنازلات داخلية وخارجية دون أن يعني ذلك تغييرا أو انقلابا على نظام الحزب الواحد القائم منذ عقود. المتابعون ل عبد الحليم خدام كانوا يتوقعون أن يحدث هذا الانشقاق منذ أكثر من سنتين، ففي حين كفت يد خدام وكثير من المحسوبين عليه عن تناول الملفات السورية الحساسة منذ 1998 لصالح الرئيس بشار الأسد حينما كان في مرحلة الإعداد لخلافة والده، اعتبر خدام - خطأ كما يقول منتقدوه- أن بوسعه التأثير واستعادة موقعه الحسّاس إذ هو وقف بجوار السلطة الجديدة، ولكن بات واضحاً أن سلطاته لم تكن حقيقية، وليس سراً أنه في أوائل 2004 كان بعض السياسيين اللبنانيين يقولون بأن «أبا جمال» لم يعد لوعوده أو أحاديثه أي تعبير حقيقي لما يدور في دمشق، هكذا فقد خدام حتى إيمان السياسيين اللبنانيين بأن له القدرة على التأثير في السياسية السورية بلبنان. يمكن اعتبار عام 2005 بمثابة خروج تدريجي ل عبد الحليم خدام ليس من السياسة السورية فحسب، بل من سوريا ككل. الحرس الجديد الذين هاجمهم خدام في حوار «العربية» كانوا هم الجيل الثاني الذي تربى على يد عبد الحليم خدام وغيره من رجالات الحزب مثل زهير مشارقة وعبدالله الأحمر ومحمد طيارة وسلام الياسين، الجيل الثاني بدأ يعد للانقلاب على أساتذته منذ 1998، وكثير من المراقبين للشأن السوري يتذكرون أنه في عام 1999 حينما كتب الصحافي باتريك سيل عن نوايا دمشق استئناف مفاوضات السلام حاول بعض السياسيين السوريين القريبين من دائرة القرار - الحرس الجديد - التوهين من هذه المبادرة، لأن عبد الحليم خدام وغيره من أعضاء الحرس القديم يقفون وراءها. كثيرون لم يدركوا ماذا كان الرئيس بشار الأسد يقصد عندما قال بأنه لا يستطيع إقصاء رستم غزالة عندما طلب خدام منه ذلك، قال بشار الأسد: (لقد أتى به غازي كنعان، و وضع فيه الثقة) .. والمعنى أن غازي كنعان وهو من المحسوبين على خدام هو من أتى ب رستم غزالة في البدء وكان ذلك بغرض إحراج خدام، أي أن الجيل القديم بدأ يخسر المعركة ضد الجيل الجديد منذ زمن غير قصير. المعلومات التي تم تسريبها عن الانشقاق التدريجي ل خدام كانت تأتي تباعاً فأولاً كان هناك تقرير بثته مصادر مقربة من الحرس الجديد في أبريل الماضي عن تغييرات ستطيح ب خدام ورفاقه من الحرس القديم، طبعاً حاول الحرس الجديد تصوير هذه الإطاحة بوصفها عملية إصلاح، وكان ذلك قبل أن يعلن ذلك رسمياً في يوليو الماضي، والمفارقة هي أن الحرس القديم وليس الحرس الجديد من كان يسعى لتهدئة الملف السوري دولياً. عبد الحليم خدام ضمّن كلامه دليلاً مهماً يخص حادثة الاغتيال وهي مسألة شريط «أبوعدس»، الفلسطيني الذي نسب عملية الاغتيال إلى «جماعة جند الشّام»، وهي جماعة اختلقتها أذهان المخابرات المحلية لتبرير عمليات في لبنان وسوريا، شريط «أبوعدس» كان مكيدة مخابراتية بائسة أرادت النيل من العلاقة التي تجمع الحريري بالسعودية، خدام رفض باستخفاف فرضية «أبوعدس». الغريب في الأمر أن قناة «الجزيرة» التي بثت التسجيل باستعجال غير مهني رغم أنه كان بإمكانها التحقق على الأقل من كونه دليلا ماديا غير قابل للاستخدام قبل اشتراط الإذن القانوني، لأن لبنان بلد قانون ومؤسسات وليس أفغانستان إبان حكم الطالبان. طبعاً، كان هناك من يريد أن تذيع «الجزيرة» الشريط حتى ولو كان مفبركاً. كانت قناة «الجزيرة» في فلسطين ترفض إذاعة أي شريط لأي فصيل فلسطيني حتى تأخذ الضوء الأخير من الطرف المعني. هناك شكوك مثيرة في الموضوع برمته ف «أبوعدس» ورغم تشدده دينياً ينتمي لعائلة سنية هي من أنصار الرئيس الحريري، و«عدس» الذي ولد بالسعودية ثم انتقل مع أهله إلى لبنان في سن التاسعة لم يتسن له السفر خارج لبنان ولم يسمح له بالسفر إلى سوريا، ثم لم يكن معروفاً أبداً لدى أي حركة أو مجموعة أصولية في المخيمات، لقد تم اختطافه قبل العملية بمدة قصيرة، والاتصال بأهله للتعمية بالزعم أنه ذهب إلى أفغانستان. ونقل عن غسان بن جدو مدير مكتب «الجزيرة» قوله للمحققين: بأن اتصالا هاتفيا أخبره بأن شريطاً مهماً معلق على شجرة في مكان ما. هناك أسئلة لم يجب عليها أحد حتى الآن. جميل السيد المدير العام السابق للأمن اللبناني هو أول من قال لرئيس لجنة تقصي الحقائق بيتر فيتزجيرالد - رداً على سؤال من قتل الحريري؟ - (السيد): «أبوعدس» .. هكذا وبكل بساطة يختزل جميل السيد اغتيال الحريري بشاب عمره 23 عاماً في حين أنه يهتم بالملف اللبناني منذ 37 عاماً. السيد ورغم تهميش القاضي ميليس لرواية «أبوعدس» قال في مقابلة معه بجريدة الحياة في يوليو الماضي: (من يريد التعرض لرفيق الحريري ألا يعرف أن رد الفعل سيتجاوز الغضب إلى الجنون لدى فرنسا والسعودية) .. هكذا يريد جميل السيد أن يبرر فرضية «أبوعدس» .. رئيس لجنة التقصي فيتزجيرالد اتهم جميل السيد ضمنيا بوضع قطع من سيارة الميستوبيشي في حفرة الانفجار. ليس هذا فحسب، فهناك أسئلة ينبغي أن يسأل عنها جميل السيد وأيضاً قناة «الجزيرة» فهناك في لبنان من اتهم الطرفين بإخفاء شريط يخص اغتيال مروان حماده لم ينشر، والسؤال: هل لأن العملية فشلت لم يكن بوسع من شاء أن يحملها «جند الشام» أيضاً؟. هناك ما لم يقله عبد الحليم خدام، ولعلي أسوق بعض المسائل باختصار: 1 عبد الحليم خدام هو من أقنع الحريري والمعارضين بأن التمديد لن يمر، وليس هذا فحسب فقد كشف نهاد المشنوق -وهو مساعد سابق للحريري - بأن خدام ورغم صداقته للحريري فقد كان أهم سبب لنقمة الحرس الجديد على الحريري، واعتباره خائنا بزعمهم، وأن حكمت الشهابي - رئيس الأركان السوري السابق الذي انشق أولاً إلى أميركا ثم استقر ب باريس - كان هو أول من دق إسفين التوتر ما بين جنبلاط ودمشق. 2 تشير التقارير إلى أن ميليس اعتمد بشكل رئيسي على شهادة تيري رد لارسن، الذي نقل معلومات خاصة من عبد الحليم خدام مباشرة إلى ميليس، ولهذا فقد ظهرت شائعة في سبتمبر عن مصادرة أملاك خدام في سوريا، ولجوئه إلى باريس، فقد اعتبر الحرس الجديد بأن خدام هو مصدر إفشاء كثير من المعلومات إلى الرئيس جاك شيراك والتي انتقلت بدورها إلى المبعوث الدولي تيري رد لارسن، حيث بطنت بشكل خفي في تقرير ميليس الأول. 3 أشارت بعض المواقع الإخبارية الفرنسية بأن عبد الحليم خدام قد تم تحذيره من محاولة اغتيال قد يتعرض لها في باريس، ويقال إن خدام شعر بضرورة إفشاء الأمور خصوصاً بعد مقتل غازي كنعان - بشبهة الانتحار-، أي أن خدام أراد أن يتحدث قبل أن يصلوا إليه، أو أن يتم الزج باسمه لأي سبب أمام لجنة التحقيق الدولية، فهو يريد أن يباشر هو أولاً لعبة كشف الأوراق قبل أن يوضع في زاوية الاتهام. [email protected]