إننا نبحث عن مناهج عمل ومخططات، عن إطارات إجرائية تستوعب الحراك الاجتماعي وتستجيب لمطالبه، عن تطوير نماذج وأنماط خاصة لإدارة مجتمعاتنا تستثمر الحصائل العملية للشعوب الأخرى ينبغي أن لا يتردد المرء في التأكيد على أن البلاد تقف على مشارف تحول مفصلي، وتتصدى لمشروع شاسع الأطراف لتجاوز وضعية الإعاقة التي وقعت المنطقة العربية والإسلامية في أسرها، ردحاً مديداً من الزمن، ويراهن المشروع السعودي على إنجاز هذا التحول على قاعدة العقلانية والتصورات المؤسسة وفق معطيات موضوعية ووقائع قائمة، لذا فهو يتوجه لمخاطبة حشد من التفاصيل والنثريات المتصلة بالوجود الإنساني في مجمل مستوياته وأبعاه، حيث ينتشر نثار هذه التفاصيل في حيز اجتماعي وإنساني متوسع تناسباً مع متغيرات كبرى ناجمة عن تلاشي الحدود القومية لعالم اليوم وتنامي وسائل التواصل المتزامنة مع تطورات محلية واقليمية يقودها تدفق العوائد والاستراتيجيات الدولية الكبرى المرتبطة بقضايا الطاقة. إن لملمة شتات هذه التفاصيل لتجسيد صورة عاكسة للواقع ومشخصة للصعوبات والإشكاليات التي تحف به، يمثل مجالاً للأفكار والعمل الذهني قبل أي شيء آخر، ومن الواضح أن الروح التحاورية وتبادل الآراء والمفاهيم التي انبعثت في حيوية متزايدة في صفوف المجتمع، وأوساط النخبة تعبر عن فترة البحث القلق التي تجتازه الشعوب في عبورها لفواصل المراحل، إنه التوتر الذي يبعث به توجس مبرر يخالطه تلهف مشروع لتصفية تركة ضخمة من المعوقات والتضاريس الوعرة التي حجبت الرؤية، وحالت دون المطر، إن نقطة التجاوز هذه تحمل في طياتها تحديات كبرى لأن ميدانها الحقيقي هو الذات المتمردة على بياتها الطويل داخل غلافها النرجسي، إنها المرحلة اللوجستية التي تعرض ملامح المعركة عرضاً فورياً قبل اطلاق الرصاصة الأولى. كل الإيماءات والموحيات والمؤشرات تنبئ أن المملكة العربية السعودية يستغرقها مشروع هائل هو ضغط الزمن واختزاله في خليط من الحماس المتقد والتعقل المتزن، وليست رائحة النفط وحدها هي ما تعبق به الأجواء هنا ولكنها أيضاً النسائم التي تهب من جهة العقل والأفكار، إن الأفكار والطروحات والإيضاحات تتدفق بأسرع مما تتدفق به آبار النفط، ويجري «تكريرها» وتعميقها عبر منتديات ومؤتمرات القيادات والنخب، وعبر تشكيلات المجتمع التقليدية، وبدون مقدمات كشفت المملكة العربية السعودية عن مخزون هائل للأفكار وطاقة أكبر لانتاجها، ومن البحر إلى البحر تحولت إلى مصنع واحد ينتج الأفكار على خطوط متعددة، وتعكس الاسابيع القليلة الماضية مقطعاً نموذجياً للإنهماك في البحث عن الرؤى والتصورات لعناوين تحظى بالاجماع الوطني لحسن الطالع، فمن منتدى الطاقة العالمي إلى مؤتمر كود البناء السعودي «هل أمحلت لغة الضاد وجفت عروقها فلا تجد سوى الكود code»؟ ومن قمة مكة إلى المنتدى الاقتصاد بالرياض وليس انتهاء بمؤتمر الحوار الوطني بأبها، كان الوعي يعبر عن يقظته ويفصح عن ممكنات المشروع الوطني المأمول. إن الضرورات تبرز في المقدمة والتوجهات الجادة لا تفتعل موضوعاتها، لذا فإن القضايا الاجتماعية ووسائل التنظيم والإدارة الاجتماعية ملأت الحيز الأوسع للتداولات والاجتهاد، فبينما يتركز جل جهد البشرية الحالي فكرياً وعملياً على المواضيع الاقتصادية، فإن بلادنا وفي حدود المرحلة الحالية على الأقل تبدو وكأنها قد تخففت من أحمال العبء الاقتصادي القاصم للظهر، ولكنها تكاد تترنح أعياء تحت وطأة مسائل اجتماعية قد لا تطرأ على بال أحد خارج حدودها، فمن الغلو المولد للعنف إلى أخلاقيات العمل مروراً بقيادة المرأة للسيارة والتربية البدنية واعتبارات روح التعاقد وغيرها، تنجرف البلاد في محاججة سجالية متمترسة خلف مواقع التعصب والدغمائية، بينما يحقق الاقتصاد اختراقات لافتة على مستوى الإدارة المصرفية ويكشف عن بدايات واعدة في المجال الصناعي وجانب الخدمات، فتظهر البلاد تمارس دورها على ساحتين يجمعهما المكان ويفرقهما الزمان، وتتعدى إفرازات هذه الحالة عالية التوتر حدود الحاضر إلى تكبيل المستقبل والتخلي عن أجياله في خضم التناقضات والأخطاء المنتجة في مساره. وتدرك البلاد أن عدم البحث عن بدائل في إطار عناوين الإجماع الوطني الراسخة لهذه الحالة من الإنشداد بإفرازاتها السلبية متسارعة التراكم هو الرضوخ لها ومن ثم سقوط مراهنات الحاضر وخسارة المستقبل وتبخر كل المشاريع والطموحات أياً كان حجم الموارد المالية أو الجهد البشري، ولن يكون نزع اللافتات القديمة واستبدالها بلافتات جديدة مجدياً في شيء ما لم يؤد إلى فضاءات فكرية لا يحدها سوى المواثيق الروحية والوطنية، فليس المطلوب إنشاء نواد للتلوين الكلامي وتنضيد اللغة، ولكن المطلوب هو عقلنة الواقع تأسيساً لإدارته بمعطياته الذاتية لا بما تسقطه عليه المخيلة. إننا سعداء لأننا لا نبحث عن أيدلوجيات اجتماعية أو اقتصادية، كلنا معتصمون ومتمسكون بعروة واحدة وثقى وسرمدية، وندرك تماماً أن الوحدة الوطنية غدت بالنسبة لنا ولشرطنا المعيشي مسألة متعلقة بسلامة الحياة في المحصلة الأولى، لذا فنحن نبحث في الجزئيات والتفاصيل، وليس في الأسس أو القواعد، ولكن هل يمكن تبرير الرهان على مستوى التداول الفكري الحالي لتحقيق اختراقات تتطلبها الإدارة العقلانية للمرحلة، بمعنى ابتكار حلول واطلاق مبادرات ومناهج عمل صريحة وشجاعة لمخاطبة تفاصيل لم تعد طافية على سطح التيار بعد أن أخذت في التجمع لتعوق جريانه، هل يجدي الاستنجاد بالأفكار للتغلب على إشكاليات الحاضر دون وضعها في صيرورة الفعل ومسارات الأحداث، بمعنى آخر تمكينها من الانخراط في تفعيل المجال العمومي على انه فضاء للحوار والتفاوض، يسعى إلى ترسيخ غاية جماعية تقوم على اعتبارات التعددية وتباين المصالح والتوجهات؟ الجواب قطعاً ودون تردد: ؛كلا، وتجارب الحضارة العربية الإسلامية تحفل بمشاهد إنطفاء الفكر وتحول صرخات الاستغاثة التي اطلقها فقهاء ومفكرون عظماء مثل ابن رشد وابن خلدون في وجه الموت الزاحف، تحولها إلى تأوهات تعبر عن فجيعة الأمة بنفسها. مثل هذا المصير يتربص بأية محاولة فكرية تتوجه للمجال الاجتماعي ولكنها تكتفي بنفسها وتحلق في سماء عالمها الخاص دون أن يتاح لها أن تلامس حواملها داخل الكيان الاجتماعي التي اختارته مجالاً لفعاليتها، هذه الحوامل هي ما يسمونه المجتمع لمدني الذي يجري تهجينه كمصطلح في الثقافة الشعبية العربية، بعد أن تم سلخه عن السياقات الفكرية التي نشأ في أحضانها وتطور عبر تجربتها، دون أن يعني ذلك أن المجتمع المدني انتاجا حصريا للمسار التاريخي لأوروبا، ولكن نسخته الأوروبية السائدة هي ما تتناوله الأدبيات الاجتماعية في زمننا الحاضر، ولقد ولدت هذه النسخة توأماً للليبرالية الحديثة وترعرعت معها في أحضان التجربة الأوروبية نفسها، حيث تشكل «الحرية» بمفهومها الغربي أساساً روحياً وشرعياً للتوأم، بينما تحدد «القوانين» مساحة فعاليتهما، ورغم الفجوات المنطقية للأبنية الفكرية التي نشأت هذه المفاهيم في كنفها، إلا ان البرجماتية والواقعية منحت الأدوات السياسية والفكرية صكاً مفتوحاً تغرف به من أرصدة أقنومي القداسة الغربية «القانون والحرية» دون حساب. بيد أننا لا نحتاج للاحتكام إلى منتجات معرفية اختمرت في مسار تجارب إنسانية أخرى أياً كانت، لتحديد معنى القداسة، وليس في وارد مشغوليتنا البحث عن تأصيل الأخلاقي على غير القاعدة الإيمانية وتدبر آيات النص الأعظم، ليست مهمتنا البحث عن قيم أو رؤى عن الحياة والكون وما وراءهما، إننا نبحث عن مناهج عمل ومخططات، عن إطارات إجرائية تستوعب الحراك الاجتماعي وتستجيب لمطالبه، عن تطوير نماذج وأنماط خاصة لإدارة مجتمعاتنا تستثمر الحصائل العملية للشعوب الأخرى، ولكن دون ردود متشنجة أو عنفية إزاء الخلاصات الفكرية التي تتبناها، لأن مفاهيم مثل المجتمع المدني والقانون والمواطنة تحمل مضامين إجرائية وعملانية برهنت عن نجاعتها في إدارة المجتمعات الحديثة، وهي تستند إلى قيم إنسانية تتقاسم البشرية معظمها، ولن يكون للتطلعات التي تبثها الأفكار مكان على الأرض، دون أن ينهض مجتمع المساواة في الفرص والمصالح ليتشكل عبر هيئات ومؤسسات وكيانات قائمة بذاتها وفق غايات القيم المرعية والمقاصد المستهدفة. قبل أي شيء آخر فإن تشكيلات المجتمع المدني وتنظيم الإدارة الاجتماعية، هي صناعة بشرية تظل بين أيدي البشر منزوعة القداسة وبرسم التصحيح والإضافة أبداً، وما دمنا لا نبحث عن السلطة الأخلاقية أو مبادئ بل عن إجراءات ومناهج فإن التهيب يصبح هاجساً منافياً للحصافة.