لم يكن وصول صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل سفير خادم الحرمين الشريفين الجديد إلى واشنطن، حدثاً عادياً، فهو وصل إلى العاصمة الأميركية في واحدة من أصعب المراحل التي تمر بها العلاقات السعودية الأميركية منذ انشائها قبل أكثر من نصف قرن. كما انه وصلها في وقت تمر بها الولاياتالمتحدة نفسها بفترة فريدة في تاريخها بعد احداث 11 سبتمبر وخوضها حربين في أفغانستان والعراق واتخاذها سياسات جديدة اعتبرت انحرافاً واضحاً عن النمط الذي كان سائداً في العلاقات الأميركية العربية على مدى فترة طويلة خصوصاً لناحية الدفع باتجاه تغييرات في الواقع العربي، وتركيزها على حملة التحول الديمقراطي فيه. فضلاً عن ذلك فإن وصول الأمير تركي إلى واشنطن جاء بعد فترة طويلة جداً من سيطرة سفير خادم الحرمين الشريفين السابق سمو الأمير بندر بن سلطان على المشهد الدبلوماسي العربي في واشنطن لفترة اقتربت من ربع قرن كان فيها عميداً للسلك الدبلوماسي العربي. ولم يكن الأمير بندر مجرد سفير فقط في واشنطن، بل برهن على كونه مبعوثاً دبلوماسياً رفيع المستوى حيث لم يكتف بمعالجة ملفات في غاية الخطورة والأهمية في علاقة المملكة العربية السعودية فحسب مع الولاياتالمتحدة، بل وتعداها إلى ملفات دول عربية وغير عربية حاول جاهداً ان يجد حلولاً لها، لاسيما القضية الفلسطينية واللبنانية وعلاقات واشنطن مع دول عربية مثل سورية ولبنان وليبيا وغيرها. وحسب صحيفة ذي اتلانتيك جورنال كونستيتوشن الأميركية في تقريرها المطول الذي نشرته عن السفير السعودي الجديد، فقد قال سمو الأمير تركي لمجموعة من الصحفيين في واشنطن الشهر الماضي في محاضرة قدم فيها نفسه للعالم الصحفي الواشنطوني انه قبل أن يغادر الرياض توجه إلى جلسة مشاورات مكثفة مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ليسأله رأيه ومشورته في طريقة ادارة العلاقة السعودية الأميركية في هذه الفترة. وقال انه أبلغه ان «الدبلوماسي يقول نعم حين يعني ربما ويقول ربما حين يعني لا، ولكنه حين يقول، لا فإنه لا يكون دبلوماسياً، ولكن ابرز ما كشف عنه السفير السعودي في هذا اللقاء هو نصيحة خادم الحرمين له بالنسبة إلى التعامل مع الرئيس بوش. وقال مستذكراً: حين كنت أودعه، سألته بقولي: يا خادم الحرمين الشريفين كيف لي ان أتعامل مع الرئيس بوش؟ فنظر إليّ وقال، فقط كن صريحاً معه. كيف تلقت واشنطن سمو الأمير تركي سفيراً للمملكة العربية السعودية فيها؟ صحيفة ذي اتلانتيك جورنال كرنستيتيوشن الأميركية نقلت في تقرير مطول لها نشرته عن السفير السعودي الجديد مؤخراً عن المحللين السياسيين في العاصمة الأميركية قولهم ان سمو الأمير تركي البالغ من العمر ستين عاماً والذي تلقى تعليمه في الولاياتالمتحدة وعمل سفيراً لبلاده في بريطانيا لأربع سنوات بعد أن كان ترأس جهاز الاستخبارات السعودي، «يوجه الاشارات الصحيحة» في هذه الفترة الحرجة من العلاقات السعودية الأميركية، ونقلت عن وايش فاولر، السفير الأميركي السابق في المملكة ورئيس مجلس ادارة معهد الشرق الأوسط بواشنطن قوله انه «الرجل المناسب للمنصب» وأضاف فاولر ان السفير الجديد سيكون في المتناول وسيكون صريحاً ولكنه سيكتسب الأصدقاء في واشنطن وفي الولاياتالمتحدة ككل للمملكة. ووصف فاولر شخصية الأمير تركي بأنها «منفتحة من دون ان يكون طناناً». وكان سمو الأمير تركي قد تخرج في العام 1963 من مدرسة لورنسفيل الأميركية، وهي مدرسة مشهورة ذائعة الصيت تقع بين نيويورك وفيلادلفيا على الساحل الشرقي للولايات المتحدة قبل ان يكمل دراساته الجامعية في جامعة جورجتاون العريقة بالعاصمة الأميركية. وبعدها التحق بجامعة اكسفورد البريطانية العريقة لاكمال دراساته الجامعية فيها ايضاً. ومع ذلك، فإنه كان صريحاً جداً في حديثه عن وضعه الدراسي حين كان طالباً. فقد قال للمجلة الاسبوعية التي تصدرها مؤسسة نيويورك تايمز اسبوعياً وتوزعها مع نسخة الصحيفة يوم الأحد من كل اسبوع انه في بداية دراسته الجامعية أمضى فصلاً دراسياً في جامعة برنستون، وهي جامعة أميركية عريقة ايضاً. وأضاف انه «اخفق في جميع فصوله الدراسية في مادة الهندسة، وهكذا فقط طردتني الجامعة. واضافة إلى صراحته، فإن ما يلفت نظر المجتمع الصحفي الأميركي في شخصية الأمير تركي هو تواضعه وعدم تركيزه الشديد على كونه أميراً. وقال لمجلة النيويورك تايمز في المقابلة نفسها ان كون المرء ابنا لملك ليس مختلفاً عن كونه ابناً لصحفي أو أي شخص آخر. ولكن المراقبين السياسيين يدركون ان السفير السعودي الجديد وصل إلى واشنطن في فترة تمر فيها علاقات بلاده مع الولاياتالمتحدة بفترة حرجة بعد أحداث 11 سبتمبر. فرغم ان غالبية الأميركيين يعرفون ان المملكة العربية السعودية هي شريك اقتصادي ودبلوماسي رئيسي لبلادهم - كونها أكبر مصدر للنفط في العالم وزعيمة مهمة في العالم العربي والإسلامي - فإنهم يعرفون ان الكثير من ذلك تغير بعد 11 سبتمبر.. والحقيقة التي يواصل منتقدو المملكة توجيهها إلى الرياض وتذكير الأميركيين بها هي أن 15 من بين خاطفي الطائرات الأميركية الذين هاجموا نيويوركوواشنطن كانوا سعوديين. وعدا عن التحدي الذي يواجهه الأمير تركي في تعاطيه مع التصورات والمواقف الشعبية للأميركيين حيال بلاده، فإنه يدرك أن هناك مشاكل أيضاً في مبنى الكونغرس بالنسبة إلى الموقف من الرياض.. فما ان حط الأمير تركي رحاله في واشنطن حتى كانت اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ تعقد جلسة مخصصة لبحث العلاقات الأميركية السعودية.. السناتور الديمقراطي بات ليهي انتقد في تلك الجلسة ما وصفه ب «تمويل المملكة المسرف للمدارس الإسلامية في سائر أنحاء المنطقة».. ووجه ليهي انتقادات حادة أخرى إلى المملكة، متهماً إياها بأنها «تروج لأشكال متطرفة من الإسلام وتدعو إلى الكراهية والعنف».. الأمير تركي لم يترك الأمر يمر من دون رد.. فقد أصدر بياناً وزعه مكتب الإعلام بالسفارة السعودية في واشنطن في اليوم ذاته الذي عقدت فيه اللجنة اجتماعها عدّد فيه الخطوات العديدة الملموسة التي اتخذتها الحكومة السعودية في السنوات القليلة الماضية لمكافحة الإرهاب، ووصف تصريحات مثل تلك التي صدرت عن أعضاء اللجنة المذكورة والشهود الذين تحدثوا فيها بأنها هي تثبط عزيمة الشعبين السعودي والأميركي. وقال السفير السعودي في بيان خاص أصدره بالمناسبة بعد الجلسة مباشرة ان على «المجتمع الدولي أن يواصل العمل بصورة تعاونية».. وأضاف ان «الرئيس بوش ووزيرة الخارجية رايس وغيرهما أشادوا بالمملكة مراراً لجهودها التي قامت بها، ونحن قمنا وسنواصل القيام بما علينا القيام به». وتابع يقول: «ولكن أحداثاً مثل جلسة الاستماع اليوم لا تساعد في بث روح من التعاون بل انها تعمل على تعزيز الانطباعات الخاطئة وأنصاف الحقائق.. إن هذا إنما يوجه برسالة مثبطة للعزيمة للشعبين السعودي والأميركي في وقت يتعين علينا أن نعمل فيه على الترويج لتفاهم أكبر بيننا». وقال الأمير تركي الفيصل في بيانه: «فكما شهد العالم، فإن المملكة العربية السعودية، كما الولاياتالمتحدة، هي هدف رئيسي لتنظيم القاعدة، إذ على مدى السنوات الثلاث الماضية، هاجمت القاعدة المملكة بصورة متكررة».. وقال ان «هؤلاء الإرهابيين يعارضون المملكة والشعب السعودي لأننا نحاول الدفع ببلادنا إلى الأمام، نحاول تحديثها وأن نصبح جزءاً من الاقتصاد العالمي.. إن القاعدة طائفة عقائدية أعلنت الحرب على بلادنا ومجتمعنا.. ورداً على ذلك، ردت المملكة بسرعة خاطفة، مطلقة جهداً مكثفاً للتصدي للإرهابيين وأولئك الذين يمولونهم وأولئك الذين يتغاضون عن أعمالهم». ولا يفوت الأمير تركي أن يؤكد في خطبه العامة التي يلقيها في طول الولاياتالمتحدة وعرضها أن أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة الإرهابي الذي ترأسه لا يمثلان المملكة العربية السعودية وشعبها، ولا يمثلان العالمين العربي والإسلامي.. وقال سمو الأمير السعودي في خطاب القاه في معهد الشرق الأوسط بواشنطن في نوفمبر الماضي ان «هؤلاء المنحرفين لا يمثلون السعوديين.. والقاعدة ليست ولم تكن أبداً ممثلاً للإسلام». وما يلاحظه الصحفيون في واشنطن هو أن الأمير تركي تواق للتحدث إلى وسائل الإعلام لإدراكه لأهميتها في نشر صورة أكثر قبولاً لدى الأميركيين عن المملكة وحكومتها وسياساتها.. وكانت صحيفة ذي اتلانتيك جورنال كونستيتيوشن من بين العديد من الصحف ولمجلات الأميركية التي التقت بالسفير الجديد.. وتطرق سمو الأمير في لقائه مع الصحيفة إلى العديد من القضايا العربية والسعودية الأميركية، بما فيها الوضع في العراق والعلاقات الأميركية السورية والقضية الفلسطينية. وقال عن العراق ان الطريقة الوحيدة لإحلال وضع مستقر وإعادة العراق إلى وحدته تكمن «في أن يقرر العراقيون ما يريدون لأنفسهم.. عبر حكومة عراقية تكون مقبولة من جميع سكان العراق كحكومة شرعية وحكومة تمثل جميع العراقيين». أما عن العلاقة الأميركية مع سورية، فقال «اننا نتحدث بصورة مكثفة مع الإدارة الأميركية عن هذه القضية، ولم نسمع منها كلمة واحدة عن تغيير النظام في سورية».. وأضاف: «نعتقد ان المنطقة مليئة بالمشاكل مثل العنف في العراق والصراع الفلسطيني الإسرائيلي المتفاقم.. علينا أولاً أن نضمد هذين الجرحين النازفين في العراق وفلسطين ثم نتوجه إلى أشياء أخرى». وبالنسبة إلى ما يعتقده لناحية مكان وجود بن لادن، قال الأمير تركي للصحيفة الأميركية انه يعتقد انه موجود في المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان، وهو ربما يتنقل بين البلدين حين يرى ذلك ضرورياً.. وقال ان «هناك رأياً متنامياً في المملكة بأن بن لادن لم يعد الشخصية الأهم في القاعدة كما كان سابقاً». وبالنسبة إلى القاعدة، قال سمو الأمير انها «لا زالت قادرة على إصدار الأوامر وتنفيذها.. فقد رأينا ذلك في المملكة نفسها ورأينا ما حدث في لندن.. ولا زالت القاعدة حية وقوية، ولكن بطريقة مختلفة عما كانته قبل أربع سنوات». ولناحية ايران، قال سفير خادم الحرمين ان المملكة «أعربت عن قلقها للإيرانيين عن نفوذ إيراني في أجزاء من العراق.. نسمع هذه الأمور من إخواننا العراقيين أنفسهم.. ونتحدث إلى أصدقائنا الإيرانيين عن هذه القضايا». وبالنسبة إلى المتطرفين في المملكة، قال سمو الأمير تركي انه يعتقد ان «التحديث إليهم وإقامة حوار معهم هو أفضل من استعمال الوسائل الأشد ضدهم.. لقد وجدنا ان مخاطبة أساسهم العقائدي الذي ينطلقون منه وتوفير الآراء المضادة لآرائهم قد نجح في تحويل الكثير منهم عن الأفكار التي يؤمنون بها قبل اعتقالهم.. وحين يحدث ذلك فإنهم يصبحون أكثر استعداداً لتقديم المعلومات عن إرهابيين آخرين ومنظمات أخرى».