لا جدال يطغى في الساحة الفرنسية على كل النقاشات المتصلة بالحياة السياسية الداخلية أكثر من ذلك الذي يتعلق بالانتخابات الرئاسية القادمة التي ستجرى في البلاد بعد ثمانية عشر شهراً.. بل ان أجندة كل رجل سياسي في فرنسا اليوم لا تقبل إلا عن مضض أن يسجل فيها موضوع آخر غير الموضوع المتعلق بهذا الاستحقاق الذي كان الفرنسيون من قبل ينتظرونه سبع سنوات فعدل الدستور الفرنسي على نحو يجعل من المدة الرئاسية لا تتجاوز خمس سنوات.. وقد دشن الرئيس الفرنسي الحالي جاك شيراك هذا التقليد الجديد عام الفين واثنين أي في السنة التي أعيد انتخابه فيها للمرة الثانية رئيساً للجمهورية الفرنسية.. وبات واضحاً اليوم أن السنة القادمة ستكون سنة المعارك بين الشخصيات المؤهلة لفرض نفسها على الأقل في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية القادمة.. وقد جرت العادة أن ينجح من خمسة إلى عشرة أشخاص في التصفيات الأولى التي تسمح لأصحابها بالمشاركة في الدورة الأولى.. ويعد الأشخاص الذين يصلون إلى هذه المرحلة من المحظوظين طالما ان القانون الفرنسي يضطر كل مرشح إلى الدورة الأولى إلى الحصول على تزكية من خمسمائة شخص من الشخصيات المنتخبة في المجالس البلدية أو في البرلمان أو غيرها من المؤسسات التي يملك فيها الفرنسيون مقاعد بواسطة الانتخابات المباشرة أو غير المباشرة لا بواسطة التعيينات. وقبل هذا الامتحان العسير تتمكن قرابة عشرين شخصية من فرض نفسها إعلامياً أو سياسياً باعتبارها مرشحة من الناحية المبدئية للانتخابات الرئاسية الفرنسية.. ونجد فيها عادة رؤساء الأحزاب السياسية وعدداً من المنتمين إلى هذه الأحزاب ولكنهم ليسوا بالضرورة من الشخصيات السياسية الأكثر بروزاً.. كما نجد بين هؤلاء المرشحين أشخاصاً يمثلون المجتمع المدني وليست لديهم انتماءات حزبية مؤكدة. ويبدو اليوم من خلال قراءة دقيقة ومتأنية في الخريطة السياسية الداخلية الفرنسية الداخلية ان الشخصين اللذين مؤهلين أكثر من غيرهما لكسب الانتخابات الرئاسية القادمة هما دومينيك دوفيلبان رئيس الوزراء الحالي ونيكولا سركوزي رئيس حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» ووزير الداخلية.. وينمي كلاهما إلى نفس الحزب ولكن كليهما يسعى بكل ما أوتي من جهد إلى بز الثاني عام ألفين وسبعة أي في أعقاب الانتخابات الرئاسية القادمة. تشتت اليسار وأما الأسباب الرئيسية التي تجعل من هذه الفرصة فرضية جادة فهي أوضاع اليسار الفرنسي الهشة.. فقبل ثمانية عشر شهراً على الانتخابات الرئاسية لا يزال اليسار منقسماً على نفسه وغير قادر على بلورة مشروع سياسي قادر على إقناع غالبية الناخبين بالتصويت لفائدته.. ويتجلى ذلك أساساً عبر الحزب الاشتراكي الذي يعد قاطرة أحزاب اليسار والذي لا يمكن لليسار بأي حال من الأحوال الوصول إلى السلطة. فهذا الحزب غير قادر اليوم على وضع أرضية انتخابية تسمح بإعادة الحيوية إليه بسبب معارك الزعامة التي غرق فيها منذ سنة تقريباً.. وجاء الاستفتاء على مشروع الدستور الأوروبي الموحد قبل أشهر ليضعف الحزب أكثر مما كان عليه من قبل.. فلقد انقسمت قيادته إلى قسمين: قسم يؤيد مشروع الدستور وقسم يرفضه.. ويسعى اليوم ليونيل جوسبان أمين عام الحزب السابق ورئيس الوزراء الفرنسي السابق إلى الرجوع لقيادته. ولكنه يدرك أن هنالك اعتراضاً كبيراً على عودته من قبل أقطاب كثيرة في الحزب. ولذلك فإنه يوعز بين الفينة والأخرى إلى انه مستعد إلى خدمة حزبه وبلده إذا طلب إليه ذلك وأنه لن يفعل شيئاً يعرقل وحدة الحزب. وأما داخل اليمين فثمة قناعة بأن الشخصين القادرين على خلافة شيراك عام ألفين وسبعة أكثر من غيرهما هما دومينيك دوفيلبان رئيس الوزراء الحالي ونيكولا سركوزي وزير الداخلية. وهما لا يخفيان ذلك وقد دخلا منذ أشهر في حرب انتخابية سجل كلاهما عدة انتصارات فيها ولكنه خسر عدة مواقع في نفس الوقت. ويمكن القول اجمالاً ان نيكولا سركوزي يعول كثيراً على قيادات الحزب الذي يقوده والذي أفلت من بين أيدي مؤسسه أي الرئيس جاك شيراك. وهو يعول أيضاً على كونه السياسي الوحيد تقريباً من أولئك الذين يسعون إلى ايجاد توازن بين هموم شرائح اجتماعية متباينة التوجهات السياسية والايديولوجية فهو يمثل الأمل مثلاً بالنسبة إلى أصحاب رؤوس الأموال وإلى جزء هام من ناخبي اليمين المتطرف. ولكنه استطاع في نفس الوقت إقامة علاقة جيدة مع ممثلي الجالية الإسلامية التي هي قادرة على لعب دور هام في المستقبل في ترجيح الكفة بين هذا المرشح أو ذاك من المرشحين إلى الانتخابات الرئاسية. ولكن ما يؤخذ عليه اليوم أنه لا يقرن القول بالعمل. وأما دومينيك دوفيلبان رئيس الوزراء الحالي والذي يعد مرشح جاك شيراك نفسه إلى الانتخابات الرئاسية القادمة فإنه استطاع فرض نفسه في بضعة أشهر على أنه قادر فعلاً على تولي منصب رئيس الجمهورية بعد شيراك لأسباب كثيرة منها قدرته على العمل ومعرفته الدقيقة بالملفات المطروحة والصورة الجيدة التي يحملها الرأي العام الفرنسي عنه بأنه محاور جيد وأنه يجسد الصورة الفضلى التي يمكن ان يحملها غير الفرنسيين عن فرنسا والفرنسيين. فهو وسيم وهو خطيب وشاعر ومثقف. ولكن ما يؤخذ عليه أنه لم يتمرس بما فيه الكفاية بالعمل السياسي خارج دوائر الدبلوماسية التي قضى فيها شطراً هائلاً نشاطه. ولكن مشكلته الأساسية اليوم هي عدم اقتناع كثير من أنصاره بأنه قادر على الحصول على المرتبة الأولى أو الثانية خلال الدورة الانتخابية الأولى على عكس سركوزي الذي يحرص اليوم حرصاً شديداً على أن يتجاوز امتحان الدورة الأولى.