السلوك البشري، كان دائماً مصدر تساؤل لجميع العاملين في حقول المعرفة المختلفة. فالفلاسفة والأطباء والعلماء في تخصصات مختلفة مثل علم الانثروبولوجيا، وعلم النفس وعلم الاجتماع، كانوا دائماً يتساءلون عن سر السلوك البشري، ولماذا يختلف البشر في سلوكياتهم؟ هذا هو السؤال الصعب..! لماذا يختلف حتى الإخوة الذين ولدوا لأبوين وعاشوا نفس الظروف الاجتماعية والمادية والنفسية؟ لماذا يختلف حتى التوائم المتشابهة التي تنتج من تلقيح بويضة واحدة بحيوان منوي واحد..؟ ما سر هذا الاختلاف في السلوك بين البشر، مهما تقاربت بهم الصلات أو تباعدت..! كتب الفلاسفة الكُتب منذ أن عرف الإنسان الكتابة على الكهوف على جلود الحيونات عن تفسيرهم لسلوكيات الإنسان واختلاف هذا السلوك في الطبع البشري..! ثم كتب الأدباء، وخاصة الروائيين الذين حاولوا سبر أغوار النفس البشرية، وتفسير السلوك البشري، واختلاف هذا السلوك بين البشر، وحاول الروائيون أن يُبرروا اختلاف السلوك وانحرافهم عبر تحاليل أدبية التصرفات والسلوك السوي، حيث يخضع تعريف هذا السلوك غير السوي لقواعد المجتمع وظروفه الاجتماعية. فالسلوك غير السوي في بلد مثل الرياض في المملكة العربية السعودية، يختلف عن السلوك غير السوي في بلد مثل الرياض في المملكة العربية السعودية، يختلف عن السلوك غير السوي مثلاً في بلدٍ غربي مثل ستكهولهم في السويد..! وهكذا فالإنسان يُفسر السلوك غير السوي إذا اخدناه على مُجمله العام يختلف من مجتمع إلى مجتمع حسب الأعراف والتقاليد التي تحكم هذا المجتمع. لذلك فإن الروائيين الذين حاولوا سبر أغوار النفس البشرية وتحليل سلوكيات البشر من خلال أعمالهم الروائية حسب الزمن الذي عاشوا فيه، وكذلك التقاليد والثقافة التي عاشوا بها. ومن أشهر الروايات العالمية التي ذهبت مثلاً في تحليل السلوك البشري، وكيف أن الإنسان أحياناً يقع فريسة لأوهامه ويتغير سلوكه، هي رواية «دون كخيوته» وهي رواية عميقة، وتُعتبر واحدة من روائع الأدب العالمي، وحسب رأي بعض المثقفين والنقاد العالميين فإن الروائع الأدبية أربع، هي «الالياذة» لهوميروس، و«الكوميديا الالهية» لدانته، و«دون كيخوته» لثرباتس و«فاوست» لجيته. ورواية «دون كيخوتة» والتي كثيراً من ينطقها البعض دون كيشوته أو دو كيشوت. هذه الرواية كتبها الروائي الاسباني الشهير ميجيل دي ثربانتس سابدرا، الذي ولد في قلعة هنارس في التاسع من أكتوبر سنة 1547م، وكان والده طبيباً جراحاً، وأمه ليونور دي كورتيناس. وأمضى طفولته في بلد الوليد، ودرس في المدرسة اليسوعية «مدرسة الجماعة» في اشبيليه، ثم هاجر إلى ايطاليا حيث التحق بحاشية الكردينال جولو أكوافيفا وتعلم اللغة الايطالية. وعاد إلى وطنه في عام 1580م. لكنه عانى من الفقر والحرمان والعذاب والشقاء والإنكار من قبل أهل بلدته. عاش في مدريد، وبلد الوليد وتزوّج من السيدة كتالينا دي بلاثيوس ولكن كان زواجه غير موفق. فذهب إلى اشبيليه، ولكن لم يلق فيها غير الإنكار، وحمل عليه الأدباء غيرة منه، فعاش بائساً يتردد بين السجن وبين حياة أقرب ما تكون إلى السجن، وكان يتعيّش من الكتابة للفتيات اللاتي لا يعرفن الكتابة بعد أن فقد وظيفته كمحصل للضرائب إلى أن توفي في الثالث والعشرين من أبريل 1616م. نعود إلى الرواية التي كتبها والتي يعتبرها المختصون في الأدب واحدة من أفضل ما كتب من روائع الأدب العالمي، والتي تتطرق إلى صراع الإنسان لقتال من لا يستطيع أن يحصد من ورائه أي جدوى، ويحاول أن يستمر في هذا القتال..! لذلك يطلق على من يقوم بمثل هذا الفعل أنه مثل دون كيخوته يُقاتل طواحين الهواء..! رمزاً على أن الشخص لا يستفيد مما يفعل ومع ذلك يُصر على أن يمضي في خسارته وتضييع وقته..! هذه الرواية الرائعة والتي ترجمها إلى اللغة العربية عن الاسبانية مباشرة الدكتور الفيلسوف عبدالرحمن بدوي يرحمه الله، بذل مجهوداً يستحق كل التقدير لأن الجزءين من القطع الكبير تجاوز ما يقارب ألف صفحة، رغم صعوبة الأحداث، ولكنها رواية تستحق القراءة بكل معنى، حيث تسبر أغوار النفس البشرية، وتصف سلوك الإنسان في مراحل متعددة من حياته وظروف المتغيرات التي يعيشها. بعد هذه الرواية جاءت الروايات الحديثة، خاصة الروائي الروسي الكبير ديستوفسكي الذي قال عنه فرويد: «لقد تعلمت سلوك النفس البشرية من روايات ديستوفسكي» وهو روائي عظيم حقاً، كتب مجموعة من الروايات تدور تقريباً جميعها عن السلوك الإنساني وتحليل السلوك البشري بطريقة فنية، ادبية رائعة، ولازالت تحظى برواج كبير بين القراء وبين الذين يدرسون السلوك البشري. روايات ديستوفسكي شرحت النفس البشرية والسلوك الانساني بشكل دقيق واستفاد الكثيرون ممن قرأوا رواياته، من الذين يدرسون السلوك البشري، وهذا امر حميد. وهناك الكثير من الأعمال الأدبية التي درست السلوك البشري بصورة نظرية كعلم النفس، والنظريات النفسية في تفسير السلوك البشري، وهي نظريات لاشك انها جادة، ولكنها تظل نظريات لم تثبت صحتها من عدمه. تفسير السلوك الانساني بنظريات عضوية بحتة، لم يظهر الا في الفترات الأخيرة، نظراً لأن التطور في هذا الجانب لم يحدث الا في الفترة الأخيرة، نظراً لأن الاجهزة التي تبين هذا التفسير الى اصابات عضوية. ولعل من بدايات ليست بعيدة، اتضح بأن صرع الفحص الصدغي يؤثر على السلوك الشخصي، وهناك حوادث كثيرة وقعت نتيجة اصابة بعض الاشخاص بامراض في الدماغ اهمها الفص الصدغي الذي، احياناً تجعل الانسان يسلك سلوكاً سيئاً او وحشياً دون وعي منه. وقد تمت دراسة ظواهر السلوك الاجتماعي والشخصية العدوانية او الدفاعية المعقدة، فوجد الباحثون بأن هناك ارتباطات بين هذه السلوكيات وعطب او تلف حدث لجزء من الدماغ خلال احدى مراحل الطفولة. واكتشف فريق من الباحثين في معهد صحة الطفل في بريطانيا ان تلف الدماغ الذي يصيب مناطق معينة منه يمكن ان يؤدي الى ظهور اعراض سوء السلوك الاجتماعي والميول العدوانية خلال مراحل النمو الأولى وحتى الوصول الى مرحلة الرشد. ويفتح هذا الكشف الباب اكثر امام امكانية استخدام تقنيات المسح الدماغي في المستقبل لتحديد وتشخيص ما اذا كان الناس قد يتعرضون الى مشاكل سلوكية على المدى البعيد عقب تعرضهم لحادث تتضرر فيه مواقع معينة ذات علاقة من الدماغ. وقام الباحثون في هذا المعهد بمراقبة وفحص حالتين لبيتين تعرضتا للتلف في الدماغ في وقت مبكر من حياتهما نتيجة تعرضهما لحوادث طارئة، ولاحظوا ان مناطق في الدماغ تقع فوق فتحتي العينين من الدماغ تعرضت لدرجة من التلف. ووجد المختصون ان الصبيين واجها صعوبة شديدة في بداية مراهقتهما في التحكم والسيطرة على مشاعر السخط والغضب لديهما، كما انهما عاجزان عن السيطرة على رصد وبالتالي السيطرة على سلوكهما العنيف، كما انهما لا يعيان عواقب ما يفعلان، واظهرا انهما لا يهتمان بما يحدث للآخرين. كما ان احدهما كاد يطرد نهائياً من المدرسة بسبب تهديداته لزملائه في الدراسة، اما الآخر فإنه صاحب سجل اجرامي لدى الشرطة، كما انه يتناول الكحول ولديه مشاكل في تعاطي المخدرات. القدرة على السيطرة: يقول العلماء ان تلك المنطقة من الدماغ تسيطر وتخفف من درجة الرغبة في التصرف على نحو تلقائي، وهو ما يسهل للناس الطبيعيين تعلم كيفية السيطرة على سلوكهم ووعي التصرف الصحيح والسير فيه. ويقول رئيس فريق البحث ان العلماء قد يتمكنون في المستقبل من تشخيص حدوث حالات تلف في تلك المناطق من خلال استخدام اجهزة المسح الدماغي عقب التعرض الى حادث طارئ. ويضيف رئيس الفريق ان المستقبل كفيل بأن يفتح الباب امام ليس فقط تشخيص الحالة بل الى العلاج او تصحيحها ايضاً. ان هذه الدراسة تؤكد ما كنا قد ذكرناه سابقاً من ان الاصابات الدماغية لها دور رئيس في تغيير السلوك البشري، والذي احياناً ما يكون تصرف وسلوك سيىء دون ان يعي الشخص المصاب بهذه المشكلة او من يحيطون به من اهل واصدقاء وأقارب بأن التغير السيىء في سلوك الشخص هو نتيجة اضطراب عضوي نتيجة اصابات في اجزاء معينة من الدماغ. لذلك يجب ان يتم فحص المريض الذي تظهر عليه سلوكيات سيئة فجأة او ليس هناك سبب واضح لهذه السلوكيات فيجب عدم اهمال اجراء الفحوصات العضوية التي قد تكون السبب في هذه السلوكيات السيئة..!!.