في كل نص هناك لحظات تمثل حالة التكوين النووي للنص، وهي بمثابة المطبخ النصي الذي تنصهر فيه القيم السردية وتتأسس عليه ذهنية النص، ومنه سنجد الجملة الثقافية الكاشفة، أو ما يسمى في التاريخانية الجديدة بالوصف العميق، وفي الصفحات من الخامسة عشرة حتى التاسعة عشرة من رواية بنات الرياض سنجد أن النص الروائي قد انطبخ هناك، وفي المداولات اللفظية فيما بين بطلات الرواية تسربت بضع جمل متبادلة بين البنات في تعليقاتهن على الحدث، وتولدت اللغة النسقية في ضغط أسلوبي كثيف ومركز، وقد صار ذلك هو مادة النص السردي وخلاصة تكوينه. ونبدأ من جملة (لم لست مكانها - ص 17) وهي الجملة التي تبادلتها عيون صديقتين من صديقات قمرة، هما لميس ومشاعل (ميشيل)، وقد تولدت الجملة من أعماق نظراتهما وهما تنظران إلى قمرة على منصة العرس، وقد سبق الجملة هذه محادثة شديدة التلاعب بين البنتين وفي تلك المداولة جرى ترتيب الطبخة السردية وتكشفت ثنائية التفكير والتعبير في عالم بنات الرياض، ولقد وضعت الكاتبة يدها هنا على أدق وأخطر التكوينات النسقية في رؤية البنات لأنفسهن ولعالمهن، وستكون كل صحفات الرواية بعد ذلك هي ناتج دلالي لماجرى في تلك الصفحات. أما جملة (لم لست مكانها) فإنها تحمل طاقة نسقية عالية بما إنها وصف عميق يكشف النص ويفتح أسراره ويعري نواياه، ولميس وميشيل (مشاعل) كانتا تتمنيان في سر كل واحدة منهما لو أنها مكان قمرة على منصة العرس، ولاشك أن قمرة نفسها كانت في دخيلة نفسها ترى أن كل واحد من زميلاتها هي أحق منها بهذه المنصة، إدراكا منها أنها أقلهن جمالاً ومؤهلات، كما ورد على لسان البنتين بشغب لكيع. والحقيقة المرة هي أن بنات الرواية كن فعلا في (مكان قمرة) والمنصة المنصوبة لقمرة تلك الليلة كانت في الواقع الثقافي والنصوصي قد نصبت فعليا لكل البنات، وهي لم تكن منصة عرس - كما في ظاهر أمرها تلك الليلة - بل كانت منصة للنسق الثقافي نصبت للجميع لتكون البنات كلهن زبائن ثقافية لها وفيها. كان راشد التنبل، ينتظر خلف الجدران لينقض على قمرة، أمام زميلاتها ويمسك بيدها، لا كزوجة كما هي دعوى ذلك الحفل المخملي، بل لينقض انقضاض السجان على المسجونة، والزبون على البضاعة، وهي ليست بضاعة مغرية للشاري ولكنها بضاعة والسلام والأهل فيها من الطرفين كانوا هم سماسرة الصفقة النسقية. وحينما تنطق عيون لميس وميشيل متسائلتين، كل في طريقتها (لم لست مكانها) إنما ذلك لأن تلك الجملة هي جملة النسق الثقافي من داخل ذلك السؤال، وهو نسق صار من طبع سلوكه أن يجعل المعاني ذات بعدين متناقضين فيجعل الفرحة سجنا نسقيا ويجعل الوعي مضمرا نسقيا أيضا، وتكون الحرية حصارا والأنوثة وأدا ومن فوقهما نظام ثقافي راسخ يتحكم بالنوايا ويجعلها مصائد وحبائل لايفكها سوى صرخة ناقدة تقول وتكشف، وأرى أن الرواية قد فعلت ذلك بشيء غير قليل من الفضح الذي قد جاء هادئا، ولكنه ساخن ويعري جانباً كبيراً من لغة المؤسسة التنبل، وما كان اسم عائلة التنبل، وهو اسم أهل راشد، إلا مؤشراً على ذلك. إن جملة (لم لست مكانها) هي في أصلها أمنية بريئة لبنتين كانتا تتمنيان ليلة العرس وتحلمان بها، وشغلتا نفسيهما في ليلة عرس زميلتهما بالتحضير النفسي لدورهما في الفرح، وكان أول ذلك التحضير هو الأخذ بنصيحة أم نوير حول سياسة ال (يالله يالله - ص 15)، وهي نصحية قدمتها المرأة المجربة للبنات لكي تساعدهن على اصطياد نظر الأمهات والخاطبات، ولتكون البنت صاحبة حظ في الحصول على خطيب، وسياسة (يالله يالله) هي في أن تمد البنت منهن يديها بالكاد، بحركتين لا أكثر،، يالله تمشين، يالله يالله تتحركين، يالله يالله تبتسمين، يالله ترقصين، والله الله بالعقل، لاتصيري خفيفة، الكلمة بحساب، واللفتة بحساب. وهذه كما يقول النص هي أضمن الطرق في مجتمعنا المحافظ إلى خطبة سريعة، هذه شروط حضور الأعراس والنزالات والزوارات وحفلات الاستقبال وذلك لجلب نظر العجائز والأمهات، ومتسوقات العرايس، هذا ما تقوله أم نوير وتحفظه البنات، وهو ليس سياسة دائمة إذ بعد الخطبة تستطيع البنت أن تستخف مثلما تريد - كما تقول النصيحة- .وهاهن البنات يحضرن زواج صديقتهن قمرة ويتواصين باتباع أسلوب أم نوير لاصطياد أنظار النساء المتسوقات إليهن. هذه هي شروط البضاعة مع ما يتوفر من مؤهلات تعرض البنات لها في الصفحات نفسها. وهذه صورة نسقية ظلت البلاغة الفحولية تنتجها على مدى قرون حول مواصفات الجسد المعشوق، وعن ناعس الطرف الذي كأنه مريض، وإذا عرضوا له ببعض الأمر لم يكد ليجيب من شدة ارتخائه، ويطرق إطراق البريء المريض، هو نموذج نؤوم الضحى، والمثل البلاغي الذي يقول عن المؤهلات: (أبت الروادف والثدي لقمصها - مس البطون وأن تمس ظهوراً). لم تكن نصائح أم نوير من بنات أفكار أم نوير بقدر ما كانت ناتجا ثقافيا أزليا، ولم تكن فكرة المؤهلات من لذعات لميس وميشيل بقدر ماكانت من ثقافة النسق وشروطه الفحولية. كان الجميع يمثلن ناتجا نسقيا وكانت تلك الليلة ليلة نسقية، ويختصر نسقيتها تمني البنات أن يكن في مكان قمرة، وهن قد كن فعلا في مكانها، وما جلست قمرة على المنصة إلا لتكتب النص، وكلمة المنصة ترتبط دلالياً بكلمة النص (المنصة - النص)، والذي تمثل أمام الحفل في تلك الليلة هي النموذج الثقافي للمرأة كما ينتجها النص، فقد كانت قمرة ثمرة لصفقة بين عائلتين، جرى فيها تزويج قمرة من رجل لاتعرفه، وجرى تزويج راشد من امراة لم يطلبها، وكان الاثنان معاً يسيران سخرة في طريق لم يختاراه، وكانت قمرة مخدوعة بكل هذا الفرح الذي هو ترح نسقي، ومعنى مضمر من معاني ثقافة التنابلة، والرواية ستثبت في كل فصولها أن ماجرى لقمرة حينما رماها راشد وطلقها، وحينما ذاقت المر من تبلده معها، وختم ذلك بضربها وطردها، كل ذلك كان اختصارا ثقافياً ورمزيا لما جرى وسيجري لبنات النص الأخريات، وكانت سديم أولى وأبرز الضحايا في تقلب الضربات عليها عبر الازدواج النسقي (الفرح / الترح - والمنصة/النص)، ونال لميس بعض من ذلك قبل أن تجد طريقها بعد تجربة مرة، وانتهت ميشيل برفض المجتمع والهروب عن سياسة ال(يالله يالله). ولقد كن جميعهن في مكان قمرة في تلك الليلة - لم لست مكانها - وهذه هي جملة النص، وجملة الوصف العميق التي تختصر الثقافة وتضع بنات الرواية في مواقعهن النسقية حتى جعلتهن ينطقن بها وهي الكلمة المصير- لم لست مكانها- تلك الكلمة التي ظاهرها أمنية ورغبة نفسية عميقة، ولكنها في مضمرها النسقي هي خلاصة مصيرية تفسر مسار الأحداث ومواقع البنات في تلك الأحداث، وبها جرت كتابة النص كله من الصفحات الأولى وجرى طبخه إبداعيا وثقافيا، وصارت قمرة ملخصا سرديا للبنات كلهن في تحول الدلالات وتقلب الصيغ عبر هذه الكلمة ذات القيمة الوصفية العميقة والكثيفة، ومن رغب في التعرف على مفهوم مصطلح الوصف العميق أو الوصف الكثيف فله أن ينظر في كتاب (النقد الثقافي - ص 43).