الهيئة العامة للاستثمار والجهات المعنية الأخرى لم تفصح عن المشروع من قبل ولم تناقشه في منتديات عامة ولم تطرحه من قبل على وسائل الإعلام. تابعنا باهتمام وبغبطة كبيرة وضع حجر الأساس لمشروع مدينة الملك عبدالله الاقتصادية الذي يمثل أهم مشروع اقتصادي أُطلق في المملكة بعد مشروع مدينتي الجبيل ويبنع الصناعيتين اللتين أطلقتا قبل أكثر من 30 عاماً. هذا المشروع ليس مشروع مصنع أو شركة أو منطقة صناعية، بل هو مشروع مدينة اقتصادية متكاملة ستبلغ كلفتها التطويرية حوالي 100 مليار ريال وستشمل بناء مناطق اقتصادية وخدمية ضخمة منها منطقة صناعية وميناء كبير ومدينة مالية ومدينة تعليمية ومدينة سكنية وغير ذلك من الخدمات. الذي يقرأ في تفاصيل المشروع المثيرة وفي ضخامة الاستثمار وفي عائده الاقتصادي الهائل، يشعر وكأنه يشاهد فيلماً سينمائياً من أفلام الخيال، أو يقرأ قصة من أدب الخيال العلمي، أما من يشاهد المجسمات كما ظهرت في الإعلان الضخم الذي نشرته شركة إعمار الإماراتية (المستثمر الرئيس في المشروع) ونشر يوم الخميس الماضي في الصفحة الأولى التي شكلت صفحة الغلاف في كافة الصحف السعودية المحلية والدولية، فسيقف مشدوهاً أمام قدرة المخططين على إبهار المشاهد بجمالية المدينة وتكاملها، فيدعو الله أن يمنحه الصحة والعمر الطويل حتى يرى هذه المدينة وقد تجسدت على أرض الواقع، فينعم بها أبناء هذه البلاد المباركة التي تستحق أكثر من مدينة اقتصادية نموذجية. عندما قرأت تفاصيل المشروع قلت إن أهداف الخطة الخمسية الثامنة التي أقرها مجلس الوزراء مؤخراً قد تم تحقيقها ب «ضربة معلم واحدة» لا غير، فمشاركة القطاع الخاص في الناتج المحلي ستقفز من خلال هذا المشروع اضعافا كثيرة، ومشكلة البطالة - طالما أن المشروع سيوفر أكثر من 500 ألف وظيفة عمل جديدة - ستكون خبراً من الماضي، ولا حاجة بعد اليوم لخطط وزارة العمل أو برامج الغرف التجارية الصناعية لفرض السعودة، وإحلال العمالة الوطنية محل الوافدة. ومشكلة الهجرة إلى المدن الكبيرة ستحلها المدينة الاقتصادية الجديدة التي ستستوعب أكثر من 75 ألف نسمة، أما الجامعات والكليات والمعاهد الفنية فإنها لن تواجه ضغوط القبول ومشاكل الاستيعاب، طالما أن المشروع سيشمل مدينة تعليمية متكاملة تضم عدداً من الكليات والمعاهد والمدارس!! بعد مرحلة الصدمة والذهول، طافت بي مجموعة من الأسئلة، وأولها: لماذا ظهر هذا المشروع الضخم والهائل والذي يمكن وصفه بأنه مشروع دولة ومشروع وطن هكذا فجأة بين ليلة وضحاها دون إشهار مسبق وتهيئة للرأي العام وتعريف بتفاصيله وبإمكاناته لرجال الأعمال المتحفزين لدخول مرحلة الطفرة الاقتصادية الثانية بكل ثقة وباعتقاد جازم بأن البلاد قد تجاوزت مرحلة «العلاقات الشخصية» في الاستفادة من الفرص الاقتصادية الجديدة والواعدة؟! وبما أنني لست من رجال الأعمال ولا من المستثمرين المتحفزين، فقد شككت في معلوماتي وفي متابعتي للمبادرات الاقتصادية التي تقوم بها المؤسسات الاقتصادية المختلفة، وقلت في نفسي لعل الموضوع قد طرح للنقاش وعرض على رجال الأعمال وعلى المسؤولين في أجهزة الدولة المعنية ومن أجله عقدت المؤتمرات والندوات الاقتصادية. فلما شككت في معلوماتي اتصلت ببعض الأصدقاء الذين توقعت أنهم متابعون لهذه المبادرات، فلم أجد أنهم يعرفون عن الموضوع شيئاً سوى ما ورد في الأخبار والتغطية الصحفية. ثم رجعت إلى برنامج المؤتمرات الاقتصادية الأخيرة مثل المنتدى الاقتصادي الثاني الذي نظمته الغرفة التجارية الصناعية بالرياض في بداية هذا الشهر، وكذلك منتدى جدة الاقتصادي الذي نُظم في الشهر الماضي، ولم أجد ذكرا لهذا المشروع، أو لاستراتيجية الهيئة بإنشاء خمس مناطق اقتصادية متكاملة خلال السنوات القادمة. ثم تقدمت خطوة واطلعت على موقع الهيئة العامة للاستثمار على شبكة الإنترنت لأحاول أن أتعرف على تفاصيل المشروع، ولم أجد فيه سوى الخبر الذي نُشر في الصحف، ولم يتوفر في الموقع معلومات ذات قيمة عن استراتيجية الهيئة بإنشاء مثل هذه المدن الاقتصادية المتكاملة. هذا النقص في المعلومات وفي تهيئة الرأي العام لهذه المشاريع الضخمة يؤثر على الشفافية التي ينادي بها كثير من الاقتصاديين وهي شرط أساسي لبناء بيئة استثمارية صحية ومنتجة، وقد نصت توصيات المنتدى الاقتصادي الثاني الذي عُقد في الرياض مؤخراً على أهمية إصدار نظام للشفافية والمساءلة الاقتصادية في المملكة، يتوفر فيه ضمان حق مجتمع الأعمال في الحصول على المعلومة. والتأكيد على أن الأصل هو نشر المعلومات والبيانات. وضرورة الزام المسؤولين الحكوميين في المجال الاقتصادي بشكل دوري بشرح التطورات الاقتصادية الهامة وتأثيرها على الاقتصاد والمواطنين وأصحاب الأعمال. ولكن لما تأكد لي أن الهيئة العامة للاستثمار والجهات المعنية الأخرى لم تفصح عن المشروع من قبل ولم تناقشه في منتديات عامة ولم تطرحه من قبل على وسائل الإعلام، فقد جال في ذهني عدد من التفسيرات لهذا التصرف. فقلت لعل الهيئة أرادت أن يكون الإعلان عن المشروع بعد اكتماله وقبل يوم من بدء العمل في الإنشاءات بمثابة مفاجأة للجميع فتحدث بذلك صدمة للأجهزة البيروقراطية في الدولة وفي القطاع الخاص لعلها توقظهم من سباتهم العميق. أما التفسير الثاني فجاء على نحو أن الهيئة نفسها لم تكن متأكدة من جدوى المشروع ومن خروجه إلى النور بهذه السرعة، فرأت أن الأفضل عدم الحديث عن المشروع بشكل إعلامي حتى لا تظهر وكأنها تقدم الوعود البراقة مثلما تفعل بعض الأجهزة الحكومية الأخرى التي لا تسمع منها إلا «أننا سنفعل كذا وكذا»، وفي كل عام تظهر وعود جديدة دون أن تقف وتقول لنا ماذا حققت من الوعود القديمة!! بعد محاولة البحث عن تفسير ثالث، توقفت وقلت إن من الأفضل عدم الاسترسال في تفسير سبب صمت الهيئة العامة للاستثمار عن المشروع الذي يعتقد من ضخامته أنه استغرق لسنوات عديدة في التخطيط له وفي دراسة جدواه الاقتصادية.. وقلت أيضاً لعل الهيئة ووزارة التجارة والصناعة (إن كان لديهما علم مسبق بالمشروع) التي يفترض أنهما تعملان لخلق بيئة استثمارية صحية وشفافة وعادلة أن تخاطب الرأي العام وتخاطب مجتمع رجال الأعمال وتتحدث عن مراحل الإعداد والتخطيط، كيف بدأت الفكرة ومن شارك في بلورتها ومن ساهم في دراسة جدواها الاقتصادية، ولماذا فازت شركة إعمار العقارية الإماراتية بحصة الأسد في المشروع، وشركات أخرى سعودية بحصص أقل وبصورة متفاوتة؟! وسؤال آخر جال في ذهني وأنا أقرأ تفاصيل المشروع جاء في جانب آخر، وقلت أين شركاتنا العقارية وأين رجال الأعمال، وأين الغرف التجارية الصناعية عن مثل هذه المشاريع الضخمة، ولماذا تتعثر مشاريع أخرى في زحمة الروتين والتراخيص ودراسات الجدوى الاقتصادية، طالما أن مشروعاً بمثل هذا الحجم والضخامة يمكن أن تتبنى تأسيسه هيئة حكومية واحدة وتكون مسؤولة عن كل الإجراءات النظامية والقانونية التي يحتاجها؟ لما يتعثر مشروع صناعية سدير الذي نسمع عنه منذ أكثر من 10 سنوات ويسير بخطى وئيدة ويستقطب له شركات ومؤسسات من الدرجة الثانية والتي لا يمكن لها بحال من الأحوال أن تنهض بمدينة صناعية متكاملة وقادرة على الصمود؟ وماذا عن التنمية الاقتصادية في عرعر والجوف ومنطقة الشمال التي تعاني من نقص حاد في الخدمات وفي الفرص الوظيفية؟ إنني أتمنى أن يكون المشروع بحق هو مشروع الألفية وأن يتكامل هذا المشروع ضمن استراتيجية واضحة لتنشيط الحركة الاقتصادية وتوفير فرص عادلة أمام الجميع، وأن تسعى الهيئة العامة للاستثمار على إطلاق مبادرات حقيقية لتحسين البيئة الاستثمارية في كل مناطق المملكة وفي كافة مستويات الاقتصاد الوطني، وأن لا يقتصر جهدها على خلق مدن صناعية منعزلة عن البيئة والمناخ الاستثماري والاقتصادي العام في المملكة، فتتأسس على أنظمة استثنائية، فتجد أنك عندما تنتقل من تلك المدن الاقتصادية، إلى إحدى مدننا الكبرى أو الصغرى وكأنك انتقلت من دولة إلى أخرى عنها من ناحية الأنظمة والتنظيم والإدارة والتمويل، أو من حيث البيئة السكنية والخدماتية، أو من حيث مستوى المعيشة والترفيه. إنني آمل أن يفهم هذا المقال في هذا الإطار، فصاحب هذا القلم يؤمن بأهمية هذه المدن الاقتصادية ويؤمن بأهمية الخروج عن المألوف وإطلاق مبادرات ومشاريع ضخمة غير مسبوقة، ويؤمن بأهمية التنافس وأهمية الاستثمار الأجنبي وأهمية الاستفادة من الخبرات العربية والعالمية، ولكنه يؤمن أيضاً بأن بلادنا تتملك طاقات بشرية مبدعة ومتمكنة تبحث عن الفرص ولكنها تضيع في زحمة الروتين والبيروقراطية، ويؤمن كذلك بأهمية الشفافية وتكافؤ الفرص والعدالة لخلق مناخ اقتصادي صحي يعزز من المصداقية والثقة والمشاركة من الجميع.