أثناء حرب الخليج الأولى تهافت الناس على شراء أجهزة الراديو (الكبيرة) ظناً منهم أن الأكبر يعني الأفضل - وربما اتسع لمذيعين أو ثلاثة.. وحينها راج راديو روسي ضخم (يشبة صندوق الرطب) في حين كسدت أجهزة أصغر حجما وأقوى استقبالا تنزلق في الجيب انزلاقا !!! هذه المفارقة (بين الأكبر والأفضل) مازالت مستمرة في علم المخ وطب الأعصاب؛ فالبعض مازال على قناعة بأن لحجم المخ (وضخامته) دوراً في النبوغ والعبقرية - ويسعى لإثبات ذلك بطريقة تشريحية بحتة - . وعلى هذا الأساس تم تشريح دماغ العالمين الفرنسيين لافوزيه ورينيه ديكارت، والفنانين الألمانيين باخ وبيتهوفن ، كما أجريت في السويد وكندا محاولات مشابهة طالت عالم الرياضيات كارل جاوس والطبيب الكندي وليام أوسلر وعالمة الرياضيات السويدية سونيا كوفالفسكي.. وبحلول القرن العشرين بلغ عدد النوابغ الذين فحصت أمخاخهم 137 شخصًا - لم يكتشف لدى أي منهم شيء مميز. ولم يتجرأ أحد على ادعاء أي اكتشاف حقيقي قبل عام 1924 حين توفي الزعيم السوفياتي فلاديمير لينين واستخرج دماغه بغرض تشريحه. ففي ذلك العام تم استدعاء عالم التشريح الألماني (أوسكار فوجت) لدراسة مخ لينين وتم إنشاء معهد خاص لهذا الغرض في موسكو. وبعد عامين من الدراسة أعلن أوسكار اكتشاف (اختلافات مهمة) في مخ لينين غير أن الأوساط العلمية في الغرب لم تأخذ تصريحاته على محمل الجد - خصوصا أنها تعرف أن لينين أصيب بعدة جلطات دماغية قبل وفاته - !! أما أكثر الحالات شهرة - بعد لينين - فهو تشريح دماغ عالم الفيزياء الشهير أينشتين عام 1955 فهذا الفيزيائي الكبير (واضع النظرية النسبية) أوصى قبل وفاته بالتبرّع بدماغه لخدمة العلم. وحين توفى عام 1955 قام عالم الباثولوجيا الأمريكي توماس هارفي بانتزاع مخه قبل سبع ساعات من وفاته النهائية. وبعد ستة أشهر من البحث المكثف أعلن هارفي أنه لم يعثر على شيء غير عادي في مخ أينشتين. وحينها شكل هذا الاعلان ضربة لدعاة العبقرية التشريحية فتراجع الاهتمام بفحص أدمغة النابهين لفترة من الوقت. إلا أن الاهتمام بهذا الجانب عاد ليفرض نفسه بعد اختراع آلات المسح الصوتي والمغناطيسي واكتشاف مناطق دماغية غير معروفة من قبل. وعندئذ أعيد فحص مخ أينشتين بعد مرور ربع قرن على وفاته في جامعة كاليفورنيا (بيركلي) فوجد فريق البحث أن نسب الخلايا المكونة لنسيج المخ لديه تختلف عن الآخرين في منطقتين مسؤولتين عن التخطيط والتحليل والمنطق الرياضي.. وفي عام 1999 أعيد فحص مخ أينشتين للمرة الثالثة في جامعة ماكماستر بكندا وأعلن الأطباء أن جزءاً من مخه يخلو من أخدود معروف يوجد في الأمخاخ العادية للبشر. واعتبر الباحثون أن غياب هذا الجزء من الأخدود يسرع عملية التواصل بين المنطقتين الواقعتين على جانبي المخ - فضلا عن أنه يعد بنفسه (إضافة) إلى مساحة هذه المنطقة لتصبح عند أينشتين أعرض من المألوف بمقدار 15٪ !! .. على أي حال؛ حتى لو ثبتت ضخامة جزء أو منطقة معينة من الدماغ فهذا وحده لا يعد دليلا على وجود العبقرية ( فالدلافين مثلا تتمتع بأدمغة تفوق البشر، في حين يملك الأميون أدمغة تفوق العباقرة والمتعلمين). هذا الانتفاء - بين العبقرية وحجم الدماغ - يذكرني بفرضية رائدة تدعي أن العقل (موهبة سامية) منفصلة عن الدماغ ولكنها.. تظهر من خلاله.