لوشئنا نقل الأمر من التنظير إلى استصحاب أمثلة من واقعنا المعاصر على ضرورة مراعاة المصالح في التكييف التشريعي لباب المعاملات لرأينا مثلاً ما جاء في حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك) فقد جاء هذا التحريم لحماية المشتري من أن يفقد ماله ولا يحصل على السلعة التي اشتراها، وهو حكم صدر بطبيعة الحال في وقت ليست توثيقية معاملات البيع والشراء والحصول على السلع ونقلها وتخزينها وتخصيص عمليات البيع بشكل يحدد بائعي كل صنف على حدة وتوثيق عمليات استلام السلعة من قبل المشتري وعمليات الائتمان مثلما هي عليه الآن، فلو تقدم أي مشترٍ الآن لشراء سيارة أو منزل عن طريق أحد البنوك في الوقت الذي ليست فيه السيارة أو المنزل بحوزة ذلك البنك ، فهل يمكن في ظل عمليات التوثيق والضبط الحالية ودرجة انسياب السلع بين المؤسسات أن يظل هناك خوفٌ على المشترى تجاه عدم حصوله على السلعة مع فقدانه لما دفعه فيها من مبالغ؟ إن مجرد دفع القيمة للبنك في هذه الحالة ليس إلا الخطوة الأولى في عملية البيع، وحصول البنك على السيارة من أي «من معارض السيارات وهي منتشرة وموثقة في سجلات وزارة التجارة، أو أي من مؤسسات العقار بالنسبة للمنزل وهي الأخرى منتشرة وموثقة التسجيل في وزارة التجارة سهل وميسر، والخطوة الثانية والضرورية أن يوقع البائع على استلام السيارة أو المنزل بموجب الوثائق الرسمية، ولو لم يوقع على استلامه لها لأي عائق يمنع من ذلك لكان باستطاعته استرداد ما دفعه في الحال، فهل يمكن القول هنا بأن علة إصدار ذلك الحكم لا زالت قائمة؟ أظن أن الإجابة من مشاهدة السائد هي بالطبع لا، هذا بالإضافة إلى أن مطالبة البنوك بامتلاك السيارات والبيوت مقدماً قبل بيعها للمشترين - مع افتراض نظامية مثل هذا التصرف - ليس مجدياً اقتصادياً إن لم يكن يؤدي إلى كثيرٍ من الخسائر لها في ظل عدم ضمان البنك المعني وجود مشترين لتلك السلع، إذاً يمكن القول هنا أن ظروف تطبيق هذا النص لم تعد قائمة الآن، أو أن الأساس المصلحي الذي بُني عليه حكم النص لم يعد متوافراً الآن، أو أن المفاسد التي أراد النص درأها لم تعد قائمة، مما يستدعي مع هذه الظروف المستجدة إعادة النظر في أمر كهذا ونظائره مما لها أهميتها البالغة على مسيرة الاقتصاد الوطني. ومن واقع التطبيق العملي الذي قد يُنشئ ظروفاً ليست في حسبان واضع النص فقد تم مراعاة مثل هذه الأمور في حياة السلف يأتي على رأسها ما أخذ به العلماء من جواز مبادلة الموزونات ببعضها في قروض النسأ( البيع بالأجل) إذا كان أحد الموزونين نقداً، والقاعدة المأخوذة من تحريم الشرع لربا النسأ أن يكون الصنفان متفقين في علة ربا الفضل مختلفين في الجنس، فلو تم بيع حديد عاجل مثلاً (وهو موزون) بدراهم أو دنانير ذهبية أو فضية آجلة( وهي موزونة بدورها) وقد كانت بالطبع هي العملات المتداولة قبل العملة الورقية لم يجز ذلك البيع وفقاً لقاعدة بيع الأشياء الربوية، ولكن لما يشكله ذلك المنع من عبء على الناس لكون العملة الرئيسية حينها ديناراً أودرهماً فضياً أو ذهبياً وهي موزونة ومعظم ماتتم به المعاملات الآجلة حينها كانت من الأشياء الموزونة فقد تم الترخيص للبائعين والمشترين على أنه في حالة القيام بعمليات البيع الآجل في الأشياء الموزونة فلا مانع من ذلك إذا كان أحد الصنفين دنانير أو دراهم من ذهب أو فضة، وقد أخذ العلماء هذا الحكم من حديث عبدالله بن عباس الذي قال فيه (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمر فقال من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) ومعلوم أن الإسلاف يكون حينها إما في الدراهم أو في الدنانير وهي موزونة، فدل ذلك على أنه إذا كان أحد المتبادل فيهما نقداً فإنه يصح بيع الأجل لئلا ينسد باب بيع الأجل في الموزونات فتتعطل كثير من مصالح الناس في ذلك الوقت. بالمثل يمكن الاسترشاد بما جاء في الحديث، بأنه إذا أدى تطبيق حكم معين إلى تعطيل مصالح معينة خاصة في هذا الزمن الذي تداخلت فيه العلاقات الاقتصادية وتشابكت مع الاقتصاديات العالمية، فإنه يمكن إعادة النظر فيه انطلاقاً من معيار تحقق المصلحة أو درء المفسدة التي يجب أن يتم تقييم مدى تحققها بالمعايير المعاصرة وليس بالمعايير التي كانت موجودة وقت إنشاء النص. من جهة أخرى فإن بعضاً من العمليات البنكية التي يُحظر التبادل فيها حالياً وفقاً لبعض المذاهب الإسلامية ليست إلا نتيجة قياسها على أشياء أو عمليات محظورة بعينها والقياس كما هو معروف من علم الأصول حكم ظني لا يقع في خانة القطعيات، وهناك من المذاهب الإسلامية كالمذهب الظاهري لا يجوِّزون الأخذ بالقياس في مجال الأحكام باعتبار أن المقيس ليس إلا مظنوناً تم قياسه على مقطوع به، يأتي على رأس تلك العمليات المحظورة عمليات الإقراض البنكية فقد تم قياسها على حرمة التفاضل والنسأ في الذهب والفضة الوارد تحريم المبادلات فيها في حديث عبادة بن الصامت المشهور الذي قال فيه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل... إلخ..) والقياس كما بينا آنفاً يعتبر حكماً ظنياً لا يرقى إلى الحكم القطعي مثلما عليه مثلاً تحريم مبادلة الذهب والفضة، ولو تم استصحاب مفهوم جلب المصالح ودرء المفاسد في مثل تلك الأمور لكانت الصورة أجلى وأوضح وأكبر أثراً إيجابياً على الاقتصاد الوطني ومصالح الناس، وأود التنبيه هنا على أنني لا أريد الإشارة سواءً من قريب أو من بعيد إلى الجزم بصوابية وحل مثل تلك العمليات الإقراضية اعتماداً فقط على ظنية قياسها على الذهب والفضة، فهذا أمر متروك الكلام فيه للعلماء الأجلاء ممن يقدرون الأمر قدره والمصلحة وزنها والمفسدة رجحانها، ولكنني ألفت النظر فقط إلى أن ربط مسائل التشريع العملية بالمصالح المعاصرة أمر مشروع لأن تلك الأحكام لم تصدر في الأساس إلا لمراعاتها وقد كان بعضٌ منها ربما في وقت التشريع مما ترجح فيها مفاسدها على مصالحها خاصة مع استصحاب ظروف وأعراف وتمييز مصالح ومفاسد تلك الأزمنة مما تختلف مع مثيلاتها في وقتنا الحاضر الذي طرأت فيه مستجدات كثيرة ليس أقلها تشابك المصالح الاقتصادية وتعقدها وتغير مؤسساتها جذرياً بشكل جعل البنوك مثلاً قوام وعماد الاقتصاديات الوطنية مما لا مجال فيه للقول بتحرر أو حتى تصور قيام اقتصاديات حديثة بدونها، وبطبيعة الحال فإن تلك النصوص التي كانت تشرع لمثل تلك الاقتصاديات البدائية لم يكن في ذهن المتعاملين بها وقتها أن تستمر إلى الأبد رغم اختلاف الأزمنة التي تحمل معها بطبيعة الحال ظروفها ومتطلباتها ومصالحها ومفاسدها الخاصة بها، وطالما ظل مفهوم جلب المصالح ودرء المفاسد هو المعيار الثابت المؤبد في تشكيل وتقويم كثير من تلك النصوص فإن من أوجب الواجبات أن يعاد النظر في ما ليس في حسبانها التشريعي مقابلة تعقيدات الحاضر أو متطلباته. هذا التكييف التشريعي لأمر محسوب على الظنيات لا يقتصر كما هومعروف على جانب وحيد من جوانب الاقتصاديات الوطنية مما يمكن القول معه بإمكانية حصره في نطاقه الضيق بما لا يتمكن معه من التأثير في الجوانب الأخرى، بل إنه يمتد إلى كثير من الجوانب الأخرى المرتبطة به حتماً، يأتي أبرزها ما يجري حالياً من إحجام كثير من رؤوس الأموال الوطنية من الاستثمار في بعض أسهم الشركات المتداولة أسهمها في السوق أو الامتناع عن الاكتتاب في ما هو مطروح منها بحجة أنها مقترضة من البنوك وما يترتب على ذلك من هجرة تلك الأموال إلى الخارج للاستثمار هناك أو بقائها في أحسن الأحوال في أيدي أصحابها بلا استثمار خاصة مع زيادة المعروض من النقد حالياً وهو ما اتضح في ارتفاع نسب الاكتتابات الماضية وارتفاع نسب رد فوائض تلك الاكتتابات، وفي كلا الأمرين فالخاسر الأول فيهما الاقتصاد الوطني . [email protected]