حين ظهرت تقنية (تكنولوجيا) الفضائيات العربية في مطلع العشرية الأخيرة من القرن الماضي، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، هلل المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، واستبشر خيرا ظنا منه أن هذه التقنية (التكنولجيا)، وهذا الظهور البارز لها، سيعودان بالخير الكثير على كل أبناء الأمة العربية، وسيكون وسيلة تقريب بينهم، وجسرا لمد علاقات التواصل الثقافي والاجتماعي بين شتى أقطارها، فأقبل عليها إقبالا منقطع النظير، وصارت تشكل جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية، واحتلت مكانة مرموقة في فكره، واستحوذت على لب مشاعره، حيثما كان تواجده، حيث صارت تمثل بالنسبة له نافذة يطل منها على العالم بأسره، ويسافر من خلالها إلى كل ربوعه وهو قابع في بيته، ويتعرف منها على مختلف الحضارات المنتشرة عبر المعمورة، الأمر الذي أعطى هذه الفضائيات مصداقية وقوة كبيرة عنده، فشجعها ذلك على تزايد عددها وفق متتالية هندسية ذات حد تصاعدي كبير، لكن على العكس من ذلك تدهور مضمونها إلى حد تنازلي متسارع خطير، حيث أصبحت هذه القنوات تنشر كل ما هب ودب من برامج، بما فيها الغث والسمين، الصالح والطالح، الجيد والركيك، الملائم لعاداتنا وتقاليدنا كعرب وغير الملائم دون تمييز أو تمحيص، فصارت بذلك برامجها تتقارب في المحتوى والمضمون حتى من حيث طابعها الإخباري، لدرجة جعلت المشاهد يشعر بالسآمة من تكرار نفس المادة الإعلامية في أغلبها، وهذا ما دفع بالمستثمرين في هذا المجال إلى التفكير في حل لمشكل الرتابة والتكرار القاتلين، فقاموا بتخصيص مواضيع مادتها الإعلامية، فظهرت قنوات ذات الاهتمامات المختلفة كالرياضية، الثقافية، السياسية (الإخبارية)، الفنية (الغنائية)، وغيرها من الاهتمامات الأخرى، على غرار السياسة الإعلامية التي تتبعها الدول الغربية التي تتمتع فيها وسائل الإعلام بقدر هائل من حرية الإعلام والتعبير إلى حد الخروج عن المعقول، وما تسمح به الأعراف وجل المعتقدات الدينية. غير أننا لسنا هنا بصدد توجيه النقد للسياسة الإعلامية الغربية، لأن ما تقوم به هو من أبجديات ثقافتها حتى وإن كان خارجا عن حد الأخلاق الإنسانية، بل نحن هنا بصدد التأسف على ما يجري في قنواتنا، وبصفة خاصة تلك التي جعلت من التسوق الجنسي وسيلة جيدة، ومادة دسمة لحشد أكبر جمهور ممكن من المعجبين والمشاهدين، من أجل الربح المادي المحض في زمن الأقمار الصناعية المشفرة، ضاربة بذلك كل قيمنا الإسلامية، وتقاليدنا العربية عرض الحائط، غير مبالية بالعواقب الوخيمة التي قد تنجر عن ذلك وتعود على الأمة العربية بالوبال الشديد، حيث استهدفت ضرب الثقافة الإسلامية الأصيلة بتقديم ثقافة العري وتشجيعها، بإظهار مفاتن الممثلات والمغنيات وغيرهن من الراقصات وعارضات الأزياء، بغرض تحريك الغرائز في المتفرج من خلال عرض مشاهد مثيرة، كما تعمد مسيروا تلك القنوات تقديم هذه الثقافة (السخافة) على طبق قلة الحياء والميوعة، فسمحوا لتلك الشرائح من النساء باستعمال كل أساليب الإغراء التي لا يرضاها لا الدين ولا العقل، ولا الكرامة الإنسانية التي خلق الله عليها بني آدم مهما كانت ديانته وتوجهه الفكري، بصورة تجعل الولدان شيبا، وتظهر اللبيب أحمق في عجزه عن إيجاد وسيلة مضادة لهذا الزحف اللاأخلاقي على أبنائنا، ويجعل كل فرد منا مرتبكا، غارقا في حيرته، بعد استنفاذه لكل الحيل التي فشلت في إيجاد حل فردي لهذا الخطر المحدق بأبنائنا، الذي زحف بشكل مريع وامتدت شرارته إلى أن طالت أسرنا، فصار الواحد منا يخجل أن يتفرج على هذه القناة أو تلك مع أبنائه، بل وأحيانا حتى مع زوجته، لأن ما يعرض فيها من برامج تخدش كثيرا بالحياء الإنساني، حتى بالنسبة للإنسان مع نفسه، بحكم ثقافتنا الأسرية العريقة ذات الأصول المشكلة لجزء أساس من تماسك الأسرة، باعتبارها الخلية الأساسية واللبنة الأولى لبناء مجتمع سليم، وهذا ما جعل لها قداسة أعطتها إياها شريعتنا بتنظيمها للعلاقات الأسرية، وبنائها على أرضية صلبة من الاحترام والوقار. وما ذلك إلا من كيد المتربصين بنا الدوائر، المستغلين مع الأسف بعض المغفلين من أبناء جلدتنا المخدرين بوهم التحضر والعولمة والانفتاح، حيث خططوا ومازالوا يخططون لهدم قيمنا، ومسخنا من ديننا وتقاليدنا، وجعلنا أذيالا لهم ببث سمومهم عبر هذه القنوات المستقرة في عقر أسرنا دون إذن مسبق منا، وكيف لنا أن نمنعها من التوغل بيننا وهي متكاثرة وزاحفة كالجراد المارد الحامل على بساط أجنحته لنفايات الفضاء الفكرية الغربية لرميها في عقول أبنائنا لنشر الرذيلة بينهم، وهدم كل مقومات الفضيلة التي بناها أجدادنا، وحافظوا عليها جيلاً بعد جيل، فرموا بأبناء بعض من شبابنا تحت أقنعة التطور والتقدم بين أنياب الضياع، وهم في سباتهم راقدون، متلذذون بحال الملهيات والمغريات التي انغمسوا فيها، لدرجة من التفاعل أثرت على شكلهم بتشبههم بالغرب في كل ناعقة، وعلى جانبهم الروحي، بانسلاخهم عن تعاليم دينهم الإسلامي، ومقوماتهم العربية الأصيلة، وكانت النتيجة أنهم أصبحوا يعيشون في غيبوبة فكرية لدرجة جعلت البعض غارقا حتى النخاع في المجون، بل ومسلوب الإرادة فكريا لحد لا يستطيع فيه النهوض، وتدارك الموقف لصد هذا التيار الجارف الذي لا يبقي ولا يذر، وعاجزا حتى عن إدراك تطلعات أمته التي هي في أمس الحاجة إليه في الوقت الراهن والمشاركة في بعث الحياة في نخوة الغيرة على الدين والعروبة في أعماقه، لإرجاع الأمور إلى نصابها، فالشباب إذا سما بعلوه جعل النجوم مواطئ الأقدام. لقد علمنا حبيبنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فما بالك بمن يروج للباطل ويدعو له؟، والله لا يحق فيه إلا قول الله عز وجل في محكم تنزيله:{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب في الدنيا والآخرة}. فهم معاول هدم تضرب حصن أمتنا المنيع في أساسات أعمدته المرتكزة للإيقاع به، وتنخر في جذوره كالسوس المتكالب على شجر الصفصاف الشاهق لكسر شموخه، تحت شعار الحرية المزعومة، المتجاوزة كل الحدود، والحقيقة أنها ليست بحرّية بل ضرب من أضرب جنون مرضى القلوب، لأن الحرّية الحقيقية هي تلك التي تبني ولا تهدم، تحيي ولا تميت، وتلتزم بالمسؤولية بتوجيه غاياتها صوب المصلحة العامة لما فيه نفع للإنسان وضمان لكرامته التي حثت عليها كل الأديان والتشريعات السماوية والوضعية. وإذا كان سماسرة الجنس يظنون أنهم يحسنون صنعا، فنقول لهم بئس ما تظنون، وإن كانوا يسعون لكسر شوكة أمتنا والزج بأبنائنا في متاهات الضياع، فنرد عليهم بما جاء في كتابنا الكريم :{ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين}. لأن مرحلة الشباب ما هي إلا مرحلة عابرة في حياة الإنسان، ثم يسترجع بعدها الإنسان توازنه العقلي، ويرجع إلى وعيه الفكري الذي طبع عليه قلبه، وإلى الأخلاق الفاضلة التي شب عليها في كنف أسرته العربية الكريمة الطيبة، فأي مكسب يسعى هؤلاء للحصول عليه، والله إنه زبد وسيذهب جفاء، مع أول إشراق لشمس الحق، وسيمكث ما ينفع الناس في الأرض ويدحض مكر الماكرين وكيدهم. ويمكن رؤية بصيص أول إشراق لشمس الحق تلك، فيما قامت به الصحافة العربية في الآونة الأخيرة من حملة إعلامية للتصدي لهذه الحملة الهوجاء (خاصة جريدتنا جريدة الإنسانية الرياض) على قيم ديننا وأصالتنا، مستدلة بدراسات وأبحاث توصلت لإحصاءات خطيرة بعد سبر لآراء أفراد المجتمعات العربية مفادها أن انتشار أغاني الفيديو كليب الهابطة وراء انتشار الآفات الاجتماعية الخطيرة كتعاطي المخدرات لتغييب العقول، وإطلاق العنان للغرائز والشهوات لارتكاب كل أنواع المحرمات، واستفحال ظاهرة الطلاق الذي كان يعتبر فيما مضى أبغض الحلال، فأصبح اليوم وسيلة وهمية يلجأ إليها الأزواج بحثا عن المتعة الزائفة، تحت ظل الحرية المزعومة، بعد عجز الزوجات عن تقليد المغنية الفلانية في شكلها، أو الراقصة العلانية في ميوعتها، بعد طلب مستميت من الزوج المسكين الغارق في بحور الضياع، فتفككت بذلك الروابط الأسرية، وصار كل من الزوجين يحلم بالعلاقات المبتذلة ظنا منه أنها ستحقق سعادته، وستوفر له اللذة القصوى التي يلهث باحثا عنها، فأصبح الكل يسعى للظهور بمظهر الإثارة والإيحاء، متجاهلين تماماً ما لذلك من عواقب وخيمة على مجتمعاتنا العربية في ظل البطالة والكساد الاقتصادي، مدفوعين بغريزة أشعلت نيرانها شخصيات فنية، مع كل التحفظ على هذا اللقب لأنهن لا يستحققنه، حيث أصبحن أشهر من بعض الشخصيات العلمية والثقافية عندنا، مع أنهن وبال على المجتمع العربي برمته. إن فتح الباب أمام مطربي ومطربات الفن الهابط يعد انحرافا خطيرا في مسار أخلاقنا وتقاليدنا التي جاء بها ديننا الحنيف، والتي ظل الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إليها حتى آخر رمق من حياته، مرددا في الكثير من المواقف قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، لأنها أخلاق إنسانية سامية جاءت بها كل الديانات السماوية، وما جاء الرسول إلا لتتميمها، وقد أدى رسالته على أكمل وجه فتممها لقوله تعالى :{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. فما بال هؤلاء يسعون لهدمها باسم الفن؟، وأي فن هذا الذي يشعل نيران الغرائز بدلاً من أن يهذبها؟، وأي فن هذا الذي يعرض المرأة سلعة رخيصة في سوق جواري القرن الواحد والعشرين أمام الملايين بل الملايير من البشر، وهي شبه عارية وكاشفة عن كل مواضع الفتنة التي أمر الله بسترها، وجعلها مفازة للزوج فقط . إنه فن آخر الزمان، ذاك الذي يشهد انحطاطا على كل المستويات بما فيها سقوط الأغنية العربية إلى الدرك الأسفل وجعلها سبيلا لتحريك البهيمية في الإنسان، بانحصارها في مواضيع العلاقات الشهوانية بين الرجل والمرأة من حب، فراق، شغف، لقاء، فراق، وتعلق كل واحد منهما بالآخر لدرجة الجنون، بعيدا عن أي ضوابط شرعية. لقد كانت مواضيع الأغنية العربية فيما مضى تشمل كل مجالات الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان من اجتماعية وثقافية وقومية، تستنهض الهمم للدفاع عن الوطن والعروبة وعزة الإنسان العربي وكرامته، حيث أصبح التغني بهذه المواضيع، والدفاع عن المقومات العربية، والتصدي للإرهاب الجارف بكل أنواعه موضة قديمة لا تصلح إلا للعجائز أو الفئات التي تعد رجعية ومتخلفة في مجتمعاتنا، وحين يغني الفنان عن وطنه وأرضه، وينادي في أغانيه برفضه للاحتلال ويدعو للتصدي له، لا تلقى أغانيه أي صدى، أما إذا قام بتقديم فيديو كليب فيه جيش عرمرم من الراقصات الماجنات فإن أغنيته تلقى القبول، وتحقق إيرادات خيالية، في زمن انقلبت فيه الموازين، بعد اجتياح موجة العولمة التي أدت إلى مسخ الفن العربي الذي كان يمتاز بالأصالة عبر تاريخنا المجيد، فأصبح عبارة عن مجرد كلام أجوف خال من كل المعاني السامية، حتى وإن كان عربي اللهجة لكنه يحمل أفكارا غربية دخيلة على مجتمعاتنا، وهدامة لها، محملة بكل الفيروسات الفكرية القاتلة، في طابع إرهاب جنسي متستر بثوب التحضر والعولمة، ونحن إذ نسميه إرهابا فإنما لكونه مرضا خطيرا يهدد العالم العربي كله، إذ لا يعترف لا بدين ولا بقيم أخلاقية أو ضوابط إنسانية، فقد استوحش واستنمر بدعم من طرف من يحملون للإسلام والعروبة كل الضغينة والعداء، فهل من علاج جذري وفعال له؟. هذا هو السؤال الذي يجب طرحه حاليا بإلحاح، مع الحرص على وجوب إيجاد جواب شاف وكاف له، لأننا في موقف لا يحتمل الخطأ، ولا يحتمل المزيد من الصبر، بل ويرفض كل الحلول الترقيعية، أو التساهل مع من يسعى لنشر هذه الفيروسات القاتلة، لذا فالكل يجمع على ضرورة رقابة تلفزيونية صارمة للحد من هذا العفن الفني، مؤكدين رفضهم القاطع للتجمع الساذج لجماهير الراقصات في كليبات هابطة مقابل حفنة من دولارات تدفع كثمن بخس مقابل كيان وكرامة المرأة العربية. وطالما أن الحلول الفردية لم تعد تجد نفعا، فالواجب تضامن الجميع، ورفع أصواتهم ملء الحناجر دفعة واحدة لترديد كلمة :«لا وألف لا للإرهاب الجنسي»، والسهر على تكاتل كل الجهود لتقديم طريقة فعالة لترشيد الفن العربي بتشجيع الأغنية الملتزمة التي تحيي أمجاد أمتنا ومآثرها، وتراثها التقليدي الثري، حتى تستعيد هذه الأغنية مكانتها السابقة، وذلك من خلال تشجيع الفرق الشعبية المنتشرة في مدننا، الحاملة لكل معاني الاحترام لشخصيتنا العربية الإسلامية، كما لا يفوتنا في هذا المقام تقديم بديل الأغنية الراقية كحل قد يتمكن من مواجهة هذا الإرهاب الجنسي باعتبارها وسيلة يمكنها أخذ مكان الأغنية الماجنة رويدا رويدا، فالبديل بأيدينا، لكن يبقى تنفيذه بأيدي الهواة المستثمرين ممن يمسكون حاليا بزمام أمور الأغنية العربية في المجال الفني، اللهم إلا إذا كانت الإدارة غير ذلك؟. والله من وراء القصد.. ٭ الملحق الثقافي المكلف والمشرف الدراسي على الطلبة في الجزائر