قلنا عن الشخصيات الافتراضية الكثير.. كأن تبالغ في وصف بياض ثياب وأناقة شخص لا وجود له.. وتعطي له ملامح وجه تصبغ فيه الخيط الرفيع لحفة شاربه ولحيته وتشبهها بالقيطان مثلاً.. ومبالغة في السخرية تجعل له بدل «الدباب» أو حتى «عربة الكارو» سيارة «لكزس» .. ولأن كل هذا في كتابة قصة ما يكون أحد أبطالها قد يستغرق منك الوصف عدة سطور كما نرى أعلاه، ثم تأتي دواعي الاختصار لتفرض على الكاتب اختزال الوصف ليصبح كلمة واحدة تعطي الإيحاء الساخر من الشخص الافتراضي الموصوف في العمل القصصي وليس من فئة أو جماعة أو حتى أشخاص يفترض وجودهم على قيد الحياة.. فتقول عنه مثلاً الغجري أو البلحطي.. ولأن الغجري كلمة متداولة وعامة ليست ذات دلالة محددة تشبه المعنى الذي يذهب إليه أو يريد أن يذهب إليه الوصف. جاءت كلمة البلحطي .. وهي كلمة بالنسبة لي لا دلالة إشارية لها سوى معنى ساخر .. كنا نسمعه صغاراً يطلق على أي أحد كان من كان دون النظر لاعتبارات لغته أو هويته أو لونه أو أصله أو المنطقة التي جاء منها.. وصغاراً كنا نتلقفها من بين شفاه الكبار في بعض مجالسهم أو في الولائم.. ويستوي في النعت بها ذاك الشره في الطعام مع صغير السن الذي يجلس متأنقاً مع كبار السن ولا يبدي تجاههم الاحترام المطلوب في السلام والكلام.. وفي ملاعب نجمة أو الركيب ونحن نشاهد مباريات نادي ثقيف.. تسمع بعض الجماهير تطلقها على اللاعب غريب المظهر.. أو ذاك الذي يبدر منه سلوك غير رياضي دون أن يبادر للاعتذار.. وفي السوق أو حتى معارك الصغار تسمعها.. وفي كل الأحوال لا يغضب منها أحد.. لأنها كلمة هلامية غير محددة المعنى ولا يستاء منها من توجه إليه.. فهي تأتي كبديل لأي كلمة نابية أو ربما جارحة.. بل وحتى آباؤنا وكبار السن لم يكن أحد منهم يغضب من الذي يطلقها.. ويمكن أن نجد أن الجميع يعدونها كلمة مهذبة لنقد سلوك ما .. فاختيارها واطلاقها لا يدخل في قاموس الكلمات الجارحة أو المسيئة أو المشينة. وما زلت استخدمها مع أبنائي.. حين أرى قصات الشعر الغريبة أو بعض الملابس الخواجيتية التي لا تعجبني.. فما أن أراه يهم بالخروج حتى يسمعني أصرخ فيه - تعال يا بلحطي فين رايح بشكلك هذا..؟! والذي يسمعها مني لابد أن يقابلها بابتسامة رضا.. لأنه يعرف أنني أطلقتها عوضاً عن إطلاق كلمة نابية أو جارحة.. يمكن أن تجعله يكره مظهره وربما يكرهني لعدم احترامي لمشاعره. هكذا لا أفترض أن أحداً ممن يقرأها - عن طريق ما كتبت أو ما قد يكتبه غيري - أو حتى عن طريق سماعها .. يمكن أن يغضب أو يشعر بأن في مثل هذه الكلمة شيء من الإهانة. فمن الغريب أن نجد أن كلمة مثل «الغجري» أخذت تعد كلمة محترمة وشاعرية وجميلة.. ولم أسمع قط أن أحداً قد غضب منها حتى لو نعت بها.. ونعرف أن اللهجات العربية خصوصاً في بلد مثل مصر تتوالد على ألسنة أنبائها في كل يوم تراكيب لجمل وكلمات جديدة مضحكة وموحية ومتداخلة المعاني.. كان من الممكن للغضب منها أن يؤدي إلى حبسها والتوقف عن استنباطها. وإذا كانت بلادنا على اتساعها وتعدد مناطقها ولهجاتها.. مازلنا نجد فيها من يجهر بضيقه من الطريقة الإبداعية الجميلة التي يتعامل بها فنان مثل ناصر القصبي أو عبدالله السدحان حين تفرض عليه طبيعة الدور أن يتحدث بلهجة سكان إحدى مناطق الوطن مفترضاً أنها تأتي بدافع السخرية.. في خطأ شنيع يهدف للإساءة للفنان وهو يبدع في استلهام معطيات اللهجة وجمالياتها دون أن تراوده فكرة السخرية منها على الاطلاق.. بل ربما يمكن أن نقول إن حُسن إتقانها دليل حب وليس العكس. أما في حال استخدام كلمة مثل «البلحطي» فشيء يدعو للدهشة حقاً أن تجد من يجرؤ على الادعاء أنها تذهب للسخرية أو تريد الإساءة . أو تغمز من قناة فئة أو شريحة.. أو حتى أشخاص بعينهم.. فمن أنا حتى أدعي ذلك أو حتى أتجرأ عليه.. بل وكيف يمكن لكاتب أن يسيء للآخر عن طريق الكتابة.. لان أي اتهام للكاتب في شأن كهذا.. لا يهدف لإلقاء الاتهام عليه جزافاً بقدر ما يهدف للإساءة للكتابة وأهدافها وجمالياتها وما تريد للقارئ أن يستلهمه أو يحدس به.. ومن هذا الذي يملك حق الادعاء بأنه يستخدم الكلمة لخدمة أهداف خاصة قد لا تخلو من التجريح.. أفهم أن هذا ساد على مستوى النقد بين المثقفين العرب في كثير من مراحل تطور المفاهيم الثقافية والإبداعية.. وهو قد وصل إلى مستوى الإدانة والتخوين. أما حين نصل بالقول إلى أن كاتباً ما يستخدم كلمة ما بهدف تجريح أو إهانة أو ما إلى ذلك .. فإن هذا الكاتب لا يستحق أن ينشر له أي حرف.. لأنه حينها يكون قد استهان برجاحة عقول أولئك الذين أولوه ثقتهم بنشر ماكتب.. واستهان بقيمة الجريدة التي كرمته بالنشر له.. وعلى نياتكم ترزقون.. وأدعو الله أن يكفيني شرور نفسي أولاً وقبل كل شيء.