ربما لا يوجد في الإبداع السردي المحلي أنثى تشبه زيّانة في رواية محمد خضر (السماء ليست في كل مكان)؛ في ارتباط حياتها ووجودها ارتباطاً كاملاً ومتطرفاً بوجود الذكور في عالمها، وفي ارتهان ارادتها لإراداتهم؛ في خضوعها لطغيان ذكر، ثم لقرار ورغبات ذكر آخر حتى وإن كانت تنبع من مشاعر إنسانية حانية. في البداية، تظهر زيانّة هدفاً للعنف والقسوة من عمها، ثم عجينةً لينة ًمرنةً في يدي أبي عديس الذي يشكلها حسبما يريد: يمنحها مظهراً وهوية جديدين، ويصوغها على شاكلته، ويعيدها الى الطرقات مجهولةً، متشردة ًبين أهلها، كائناً غريباً، "آخر" مثله. وقبل تولي الذكور أمر زيانّة، يبتلع السيل، الماء (المذكر) "أهلها واحدا واحدا"، زوجها وأمها وأباها، والأطفال، لتبقى وحيدة. وكما يسلبها أهلها، يخطف إتزانها العقلي وصحتها النفسية، فتشرع في الطواف في طرقات "إرْبّة" عاريةً، "تمزق ثيابها، تهذي بين البيوت، وهي غارقة في دموعها"(26)، غير واعيةٍ بانتهاكها للتابو، وغير عابئةٍ بالعار. ثم تُنْقلُ من العري في الطرقات، بتدبيرٍ من عمها، الذي "كان يتهمها كثيرا بالفسق والانحلال لأنها خرجت للناس عارية" (26)، الى العري المصفد بالأغلال في غرفة قصية معتمة في أحد الأودية لكيلا تهرب وتصبح "عارا أبديا" يلطخ شرف القرية. لم يكن العم بتغييبها حريصاً على سترها؛ لم يكن ذلك مما يدور في مدار اهتمامه، إذ كانت غايته ابعادها عن الانظار، حتى ولو في غرفة يحيط بها الخطر من كل جانب. بيد أن زيّانة لم تغب تماماً عن عيون الناس، فعريها الجميل، أو جمالها المُعَرَّى يجذب الأنظار إليها، وتحديقات "الرجال الذين يرون امرأة جميلة مربوطة، وعارية" (26)، تُوفِرُ عُزلَتُها لهم فرصةً لما أسميه هنا التآخي الذكوري (male bonding)، وفرجةً تفتق مكامن الرغبة الحسية في أعماقهم، حين يلتقون عند غرفتها ليطفئوا شهوة التحديق الى جسدها. في عالمها المتخيل، تتعرض زيّانة للاضطهاد والتغييب في الغرفة المنعزلة، وتستهدفها نظرات الرجال المتشهية. وفي خارجه، في العالم الحقيقي، قد تظهر بصورٍ مختلفة لنساءٍ جميلات ٍعارياتٍ مربوطاتٍ وغيرِ مربوطاتٍ في خيال القارئ حين وصوله في القراءة إلى غرفتها، وتآخيه مع الرجال في عالمها. لكن ثمة فرق هام بين من في الداخل ومن في الخارج، فالقارئ متلصص(voyeur)، مختلس نظر (Peeping Tom)، ينظر الى زيّانة من طرف واحد، ولاتتبادل معه النظرات كما تفعل مع أولئك الرجال، مالم تكن غافلةً أو نائمة. ويختلف عنهم في أنه في مأمن من انفضاح تلصصه وذيوع حكايته بين الناس، وفي مأمن، أيضاً، من إصابته بالعمي أو الموت المفاجئ كما يحدث لنظيره في الأسطورة مختلس النظر الأول والأصل الذي نشأ منه الاسم (Peeping Tom). في الأسطورة توافق ليدي غودايفا Lady Godiva"" على شرط زوجها ليوفريك (ايرل ميرسيا) أن تمتطي الحصان عاريةً وتسير خلال شوارع كوفنتري مقابل إعفائه السكان من الضرائب الثقيلة المفروضة عليهم. ترسل "ليدي غودايفا" رُسُلَها سِراً إلى الناس ليطلبوا منهم البقاء في بيوتهم وإغلاق الأبواب والنوافذ. فتستجيب القرية ماعدا خياط يدعى "توم"، يُحدث ثقوباً في مصاريع النوافذ لينظر الى "ليدي غودايفا" عارية على ظهر حصانها، لا يغطيها سوى شعرها الطويل، فيصاب بالعمي على الفور، أو يموت كما في نسخة أخرى. لكن القارئ المتلصص، كمشاهد الفيلم، لا يصاب بالعمى، ولا يخر جثة هامدة مثل الخياط مختلس النظر الأول؛ القارئ يخرج من تلصصه مستمتعاً وبدون تعرضه لأي عقاب. وتخرج زيّانة من سجنها الانفرادي، في سرية تامة، على يد أبي عديس الغريب، اليماني، ،الآخر، عندما تحرضه الشفقة عليها الى المجازفة بتحريرها وإخفائها. "يمر عام كامل، وزيّانة مختبئة في حضن اهتمامه، تصلها الاخبار.. ويصلها خبر المكافأة لمن وجدها ولو ميتة" (28). تخرج من مخبئها، بعد أن يخلق لها هوية جديدة، ويغير مظهرها وشكلها، وبعد أن يعلمها "فنونا من الحياة، وضروبا من الانصات للروح وندائها" (33)، ويعلمها الخياطة والحياكة وحرفا اخرى. وبالتدريج يعيدها الى شوارع إرْبّة مغطاة بالكامل، مجهولة الهوية، غريبة بين أهلها، تبيعهم الفحم والخبز والاكلات الشعبية التي يعدها المحرر والمعلم ذاته. زيانّة يعتقلها ويعذبها ذكر، ويحررها ويصنعها ذكرآخر، ثم يُرْجِعُها مختلفةً إلى "إرْبّة"، وأثناء تغييبها في الغرفة المعتمة ، تتحول الى فرجة ومصدر متعة للذكور حين يمرون بغرفتها، وللقراء المتلصصين. وهي فوق ذلك، وخلال الرواية، يضعها المؤلف الضمني تحت سلطة ساردٍ عليم يتمتع بامتياز الحكي والتبئير، إلا ّفي مواقف خاطفة حين ينحسب مُفسحاً المجال للحوارات القصيرة القليلة بين الشخصيات. ماعدا ذلك، لا يسمع القارئ سوى صوت السارد، ولا يرى الشخصيات والأشياء إلاّ من زواية رؤيته التي تحدد مسارات واتجاهات السرد، ويتشكل بها عالم الرواية. لهذا تظل زيانّة والشخصيات الأخرى على مسافة نفسية بعيدة عن القارئ قد تحول دون تماهيه وتعاطفه معها. ولهذا أيضاً تغيب معها في هروبها وغيابها للأبد الحكايات والأعماق الوفيرة التي تختفي في داخلها كما يقول السارد. د. مبارك الخالدي