ربما كنا وحدنا أولم نكن، كان صديقاً وكنت أنا وإياه في مقهى/ONE WAY ، لم يكن المقام على فساحته يخلو من أكداس حناجر البشر والجوالات، وخبط الأقدام والأيادي. .. أقبل علينا، بعد اتصال مشاور، أحد أصدقاء نعرفه ويعرفنا، كان وحده في الرياض، وحده عازبا من الأهل، أواخر رمضان- 1425. .. وحده، لكنه مليء بالصبر والدخان، علامة الوقوف أن انتبذنا المكان الشرقي لنا معه. أشعل سيجاره الأبيض، وطلب شايا مغربيا، نحن في الرياض، حي الورود، الورود كلها، فمن الذي معنا سوى ابنها: عروة بن الورد.. .. وحده، ربما كان تلك اللحظة وحده، لكنه معنا. أمضى يسألني عن تحصيلي وثقافتي في الموسيقى و الغناء، أخبرته عن أشياء كثيرة، وعندما جئنا حدود الحديث الذي لابد يربطنا، ويؤرخ شذا المقهى المؤنس، بنا نحن- أحمد ومنصور، وعروة نفسه. قلت: الأدب والموسيقى، مشيا سويا، عبر الذائقة، خارج التعليم النظامي، وداخل المكتبة العامة والخاصة، ومكتبة الجيب الخاص. .. لعل عروة، وهو العارف بكل العرى الزمنية، يذكر أن له أيام دراسته في مكة، مدرسة الفلاح، أثناء المرحلة المتوسطة (الإعدادية)، كان قد اكتشف في عمر الثالثة عشر، حوارا، نشرته جريدة الندوة، لأحد رواد الأدب في السعودية، لم يعد يذكر من يكون، وقال ربما هو محمد حسن عواد أو سواه، الذي أجاب على سؤال ما ينصح به الشباب من الشعراء الواعدين، هو الشعر الجاهلي، الأموي والعباسي، والمهجر..، وعروة لم ينس ذلك أبدا، اهتدى إلى إيليا أبي ماضي في «الخمائل»، و«الجداول»، وأعجبه ذلك الشعر في صورته، مثلما أدهشه المتنبي في عظمته وشاعريته الفاخرة، وأبو العلاء المعري، الذي أذاب فكره في شعر ليس يشبه ولا يدانى.. .. عروة يمتص دخانا وراء آخر، وينسى فنجان شايه.. بعض يأتون، وبعض إلى ذهاب، ويسأل إن كنا منذ زمن جئنا أم من قريب؟، وقلنا: أنت الزمن نفسه.. .. تذكر، عروة، وهو يدفع السيجارة على فم المطفأة لتنحني وتتعلق بفيص دخان بداد، كان عرف رعشة الحداثة الأولى، في شخصية جبران، وقرأ: «الأجنحة المتكسرة» أعجبه النثر الجديد، و الغريب وذهب إلى أن يعرف الكتب الأخرى، لجبران، التي تعلق في آخر صفحة، ورأى العناوين: «السابق» مثلا، و«البدائع والطرائف»، فقد قرأ لميخائيل نعيمة كتابه عن جبران. .. قلت: ماذا عن كتاب: «النبي»؟. .. أخذته الآهة، كلها، وقال لم يكن حتى زمن متقدم، فما كان بين يدي، عندما درست في مكة سوى بعض كتب، طلبت عن طريق دار النشر في لبنان، بعض كتب أخرى، فكنت أبعث نقوداً في الظرف، وأترك عنوان مدرستي: الفلاح، واكتشف المعلمون أنني، من طلبها، هو تلميذ وليس أستاذاَ. .. دعاني قيم، على مكتبة الثقافة في مكة، وسألني، عن كتب أطلبها، نسي عروة أن الفيض الإنساني الشاعر فيه، طلب ما تنسجم الروح معه، وماكان منه سوى أن استعار بعض كتب، فليس مقام الكتب إلا القراءة ولا أنس الكتب إلا غذاء، تطلبه النفس. .. تطلع إلى كتاب: «الأبطال» لتوماس كارلايل، وكان هناك ديوان شعر، بدر شاكر السياب: «أزهار و أساطير»، وتلقى ديوان محمود درويش: «عاشق من فلسطين»، الذي مزقت ورقتان فيه، وقال لنا، عروة، أن هناك أناساً طيبون يعرضون هذه الكتب ويحرصون أشد الحرص على وجودها، ولو فقد من صفحاتها بعضاً.. ربما كانوا يعرفون أن المدارس لا يعنيها أن تثق بمتون تلك الكتب التي تهملها.. .. تذكر، عروة، أيام ترك مكة الحجاز، وراح إلى الظهران، في الشرق، حيث درس في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، اقتربت الكويت منه، وطالع ما كان ينتظره منذ الأمس، كتاب: «النبي» لجبران خليل جبران، وسألته عن أي ترجمة تلقى؟. أ هي ترجمة ميخائيل نعيمة أم يوسف الخال؟. ما عاد يذكر سوى أن اللغة جميلة في نثرها ومتطورة في أسلوبها، كان جديداً وطازجاً، وحتى المتنبي لا زال كذلك، و يذكر أن قليلاً من الشعراء يكتبون شعراً عامودياً جيداً، فقال عن عمر أبو ريشة، وكان يفخر برأي سلبي عن الشعر الجميل، يفقد جماله، إذا كان حراً، ويعتب معه على نازك الملائكة وكتابها.. .. يحضر في مخيلته، حضوره الجامعة، ومشاركته في أنشطتها، وكان في سنته الأخيرة شاعر يسبقه هو علي الدميني، هناك يلقي إحدى قصائده «قصيدة حب إلى فتاة غامدية»، وذكر أن صفة الفتاة، ثبتت في الديوان لا الإلقاء، وتذكر شعر سعدي يوسف وعبدالوهاب البياني، تذكر قصيدة له كانت ملفته في صيغة الشعر الحر (التفعيلة، الآن)، وكانت قد جعلته يراجع كلام أبو ريشة، وجعلته يعرف كيف أن الشعر، ليس توصيف شكل، وذكرنا سويا تعريفا سيئا ضر الشعر، بأخذه من بد كل التعاريف التي أنتجتها تلك الكتب النقدية العربية، هو تعريف الشعر بأنه: كلام موزون مقفى يدل على معنى، وتبسمنا على أن هذا تعريف كمي- بل خارج الشعر أيضا- وليس معنويا. .. تحدث، عروة، لنا عن معرفته بقصيدة: «مديح الظل العالي»، لمحمود درويش، هي مديح للفدائي الفلسطيني، الذي أبقى القضية الفلسطينية في ذاكرة الشعر، هو مثيل المديح الذي كان وفق عصر المتنبي، مديح الذات في سيف الدولة، عندما يقول: «واحر قلباه ممن قلبه شبم»، ورأى أن المتنبي لو كان موجودا الآن، لكتب شعرا جديدا خارج التفعيلة وقصيدة النثر..، يقولها عروة، بثقة وطرافة حكي. .. تذكر لنا، عروة بن الورد، أن القصائد، ينتظرها الشكل لا تنتظره، وأن الشعر هو ابن عصره وزمانه. .. حكى لنا، أن القراءة هي التي أنمت الذوق، وتذكرنا أن محمد سامي البارودي، درس اللغة العربية، كذلك أدبها وتاريخها، دون وصاية التعليم النظامي، فأثمرت لديه، ريادة شعر النهضة، وتذكر أن جبران كان بعيدا في أمريكا، وقال شعره ونثره، رسمه ومقالاته. .. تذكرنا، الكثير من الشعر، قال عن قصيدة: «لا ماء في الماء» لمحمد العلي أنها شعر جديد وقليل هو الشعر الجديد عند أبي عادل، وما رأى شعراً آخر.. .. تذكرنا، قصيدة: «غنيت مكة» لسعيد عقل، استعدناها بيتاً بيتاً.. من آخرها حتى أولها، وكل بيت يختمه برفع حواجبه، وقولة الإعجاب: يا سلام.. .. لازال، عروة يعجبه، ديوان: «أغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس، ويعده الذروة الشعرية له، ويرى أن محمود درويش، لازال يجاهد البقاء مع قصيدة التفعيلة، واستطاع إعاشتها إبداعياً.. .. غضب على صحافي يخفي اسمه مرة، يمارس الكتابة في الشعر، ويقول عن الشعر ماهو خارجه، ولا يعرف ما سبب حقده الأعمى، على أدونيس.. ذكرته أيضاً بأنه: يكره سعيد عقل ونزار قباني أيضاً.. .. اغتم، و رشف من شايه، بعد أن ذكره، صاحبنا منصور، وقال: كيف لهذا الصحفي أن ينشر كلاماً مثل هذا عن أي شاعر؟، كرر مراراً لو كان بيده أن احتفظ بنص المقالة ليعاتبه، ويقول من آجره على حقده هذ؟. هل كان ينشره في صحافة بلده؟. .. أسف لنا عن الشعر القديم، كيف تأذى رقابة واقتصاصاً، فذكر ما جرى لشعر أبي نواس، وتساءل إذا ما كان هناك نسخة لم تعبث بها تآفيق الرواة، ولا تحسينات المحققين، وأوهامهم.. .. تذكرنا سوياً: «حامل الهوى تعب»، وتغنى بفرح وابتسام حمل فنجان الشاي مرة، ونفث الدخان بأخرى، بهذا البيت منها: «تعجبين من سقمي/صحتي هي العجب»، وتذكر أن جبران كتب شعراً موزوناً مرة، في القصيدة - الكتاب: «المواكب»، لكنه تذكر قصيدة أخرى له: «سكن الليل». .. رأى، عروة، أن نازكاً (الملائكة) لم تكن مشروعاً منطلقاً، فقد ضمرت القصيدة عندها، ولم تكن علامة مثل بدر شاكر السياب، في: «أنشودة المطر» وسواها، وذكر مرة أخرى أنه أحب نثر أنسي الحاج، في غير قصائده، فقد ذكره، في «خواتم»، زاوية في مجلة «الناقد».. راح في شرود، وتذكر مرتين عنوان أحد كتبه، كتب أنسي الحاج، أهو: «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»؟.. قال: هو قصيدة وحده.. .. قال، عروة أن القصيدة العامودية، اكتملت جماليتها، وليس يقبل من أحد اجترارها، باسم أي شيء و أي كان، قال عن نفسه بأنه: يكتب تفعيلة ويحاول أن يمنحها شيئاً، ولسواه أن يكملوا طريق قصيدة النثر، فهذا المقترح الجمالي ليس جديداً، ربما لم يوع أنه عودة إلى طريق قديم سلكه الأقدمون، لكنه بروح عصر آخر ونكهة أخرى.. .. تذكرت له، نقش عبدة، بأنه احتوى على نص شعري، بصيغة ابتهالية موزون على البحر الطويل، فليس امرؤ القيس من بدأ المعلقات، فهو نتاج سابقيه الذين لم يسعف المصنفون والجماع من الرواة أنفسهم، بأشعارهم القليلة وأبياتهم البسيطة، وقال إنه لفرق بين أبي زيد القرشي، في «جمهرة أشعار العرب» وبين «ديوان الشعر العربي» لأودنيس.. نعم، إنه لفرق عجيب. .. أترى سيرضى امرؤ القيس بما فعلوا؟. قال: إن الشعر، في بحور، عبر تدوير أبياته واستدارتها مكرورة نغماً هو الغناء ما يطلب، وماذا يعني الشعر الذي نسي في الكتب المقدسة، كالأسفار الشهيرة، سفر أيوب ونشيد الأناشيد، ماذا يعني الشعر؟، أما لنا أن نعرفه؟. أليس هناك فرقا بين ما يقال في سطر من التفعيلة تبعد قوافيه وتقترب عن شعر تتلزم تفاعيله نسقاً وقوافيه تكراراً؟. .. كان عروة، يشعر بجدل طاف، فالمكان آنس روحه، وظل يتكلم عن مشاريعه الآتية، القصائد التسع التي سيضمها كتاب وعن عودة ليكتب ويقول أشياء عن الشعر والحياة.. .. نهض، عروة، لوداعنا، لازال غاضباً على صحفي حاقد يشتم شاعراً كبيراً، وراح يطوف بذهنه صعاليك المدينة، فأين له جمعهم وإطعامهم، وتدبر أمورهم من بعد إخفاق غزواتهم؟، أين له أن «يمنع الضيم» عن الشعراء؟، فهو من الماضي الذي جاء معه والمستقبل الذي سيذهب إليه، أتراه عرف الشعر مالك زمنه؟. .. كان الوقت يشارف الفجر، أضواء ملاهي الخيمة تبدت لنا في خفوت تلو بعضها، كان النسيم يبرد قليلاً، والحناجر تصمت وتهدل الأشجار التي يعرف جلالها، عروة نفسه، وتذكر أن رسول الخليفة الذي جاء هامساً في أذنه مرة، عاد أيضاً من جديد، ليقول له: «هيا معي.. فالجفان ممرعة.. والدنان مترعة.. وعروة يحدق في وجه ألف عام» - - - .. كانت هذه الأمسية مع الشاعر علي بافقيه، عن الشعر والإبداع، والشاعر العربي في السعودية، وعلاقته بالشعر العربي في مراكزه، أي: شخوصه الشعرية، لا دولة ولا حدوده. 30 تشرين الأول 2005.