على أرض الغرفة يستلقي الطفل هاني يتأوه ألما. تنظر أمه إليه عاجزة، وجهها يتغضن قلقا كلما تلوى جسمه النحيل ألما. من آن لآخر تمسح بطنه. عندما يبكي هاني تبكي الأم وضحى، الزرقاء العينين. يهاجمه الألم موجة في إثر أخرى في بطنه، الذي مُزق وتقطّع من قذيفة غاز الفوسفور التي أبقاها الجيش الإسرائيلي وراءه بجوار بيته، والآن قُرن به كيس بلاستيكي لتنصرف إليه فضلات أمعائه. يقوم هاني، يحاول أن يخطو بضع خطوات ويسقط مرة أخرى إلى الفرشة المطروحة على البلاط، ويبحث لنفسه عن ملجأ لآلامه ولكن عبثا. هذه الآلام الشديدة تهاجمه في كل عدة ساعات، في النهار وفي الليل. بعد ثلاثة شهور من ذلك اليوم الفظيع ما تزال معاناة الولد تثير الكآبة. هاني ابن الثانية عشرة. لم يعد أخوه فاضل معهم. لقد كان في السابعة عشرة حين موته. بعد نحو أسبوعين من العلاج في مستشفى سوروكا - قُطعت يداه في كارثة - مات فاضل، بعد ثلاثة أسابيع من تركه المستشفى. الأخ الكبير، يوسف، يجول في البيت ويده المحروقة المتفحمة ما تزال ملفوفة بضماد ووجهه مشوه من الانفجار، ورؤيته بعين واحدة قد تضررت. ومحمود أيضا ما زال لم يشفى وندوب الحريق الفوسفوري يظهر أثرها في كتفه. هكذا يبدو بيت عائلة أبو عرام، وهو بيت رعاة ماشية بدو، من سكان الكهوف جنوبي جبل الخليل، ويسكنون الآن في كوخ بائس في قرية كرمل بجوار يطا. أحد الأبناء قتيل، وآخر يتأوه من آلامه ووضعه صعب، وابنان آخران في طور الشفاء من جروحهما، وكل هذا بسبب قذيفة الفوسفور التي أبقاها الجيش الاسرائيلي باهماله بقرب بيتهم. أولاد أبو عرام ليسوا الأوائل. في عام 1998 قُطعت يدا برهان شقير، ابن السادسة عشرة، وقُطعت احدى رجليه واقتلعت عينه؛ وفي 1999 قُتل مثقال العمور، ابن الخامسة عشرة، وآدم الهليس، ابن الثانية عشرة، وفي 2000 قُتل ايضا صفوان عاصي، ابن الثانية عشرة، وخليل أبو عكام، ابن السادسة عشرة. كتبنا عنهم جميعا هنا: أبناء رعاة فقراء وجدوا ذخائر تركها الجيش الاسرائيلي بسهولة لا تطاق في مناطق النار التي يعيش فيها الناس، أكثرهم هنا، جنوبي جبل الخليل. مناطق النار؟ عاد أبناء عائلة أبو عرام الى منطقة النار التي هي بيتهم بعد أن أُجلوا عنها وأُعيدوا بأمر من المحكمة العليا، لكن لم يُجهد أحد نفسه لاخلاء بقايا الذخائر الفتاكة من مناطق عيشهم القديمة - الجديدة. هاني، وفاضل، ومحمود، ويوسف، وصفوان، وبرهان، وخليل، وآدم ومثقال، ليسوا آخر من تضرر بالانفجار. يتحدث أبناء العائلة عن بقايا ذخائر منثورة في المنطقة. تعالوا يا أولاد، سيكون انفجار. يستلقي هاني على البلاط الأحمر في غرفة الكوخ البائس الذي لا يوجد فيه شيء سوى بضعة كراسي بلاستيكية وفرشة. كان لوضحى خمسة عشر ولدا ولزوجها خليل، وبقي الآن 14. انهم يُقسمون حياتهم، مثل حياة الرعاة هنا، بين البيت - الكهف بقرب خربة جنبة وبين الكوخ في القرية النائية والقديمة كرمل. ابتدأ يوم كارثتهم كيوم عادي في كل شيء. كان ذلك في 17 آب، نهض الأولاد في الصباح لاخراج القطيع الى المرعى. حوالي العاشرة صباحا عادوا مع الماعز إلى العطن، لسقيها وللاستراحة قليلا. كان هذا يوما حارا على نحو خاص. بعد نحو ساعتين أرادوا الخروج مرة أخرى إلى المرعى. على بعد نحو مائة متر من بيتهم وجد هاني شيئا معدنيا ضخما. تقف القذيفة الفارغة الآن لتُعرض في بيت العم موسى في كرمل. طولها أكثر من متر واحد، لا يستطيع ولد صغير أن يرفعها وحده. نادى هاني فاضل أخاه، ليرى اللعبة الضخمة التي وجدها. اقترب الأخوان يوسف ابن الرابعة والعشرين ومحمود ابن الرابعة عشرة هما ايضا. ما الذي فعلوه بالقذيفة؟ أصبح كل شيء الآن مطموسا، لكن بقي شيء واحد واضحا: فجأة سُمع صوت انفجار عظيم. انفجرت القذيفة وانتشر الفوسفور الشيطاني وهو يُحرق بنار فظيعة الاخوة الاربعة. هبّ الجيران من خربة جنبة القريبة على صوت الانفجار الذي هز جميع المنطقة، وحمّلوا الاخوة الممزقين المحروقين في جرافة ونقلوهم مسرعين الى الشارع، كان الاخوة الاربعة جميعا فاقدي الوعي. كانت يدا فاضل مهشمتين معلقتين بالجلد فقط؛ وكان بطن هاني ممزقا؛ وظهرت العظام من يد يوسف الممزقة؛ وكانت كتف محمود ممزقة. هكذا شاهدهم عمهم، موسى، الذي كان أول من وصل الى المستشفى. هاتف الجيران من جنبة الوالدين اللذين كانا في كرمل وهاتف هذان الأقرباء، البدو الإسرائيليين، الذين استدعوا سيارة إسعاف إسرائيلية. استدعى الجيش الإسرائيلي مروحية ونُقل الاخوة الثلاثة الجرحى إلى مستشفى سوروكا في بئر السبع جوا؛ نُقل محمود، المجروح جرحا طفيفا نسبيا، في سيارة إسعاف، وكان يجب إجراء عملية إنعاش ليوسف في الموقع، لانه اختنق. وكانت يدا فاضل ما تزالان يصدر عنهما الدخان حينما رآه موسى في سوروكا. انه يقول انه صعب عليه معرفتهم، لانهم كانوا متفحمين تماما. ما يزال هاني يتلوى ألما على الارض. بكاؤه صامت يمزق القلب. أجريت لفاضل أربع عمليات جراحية، فقد كان الجزء الأعلى من جسمه كله محروقا. كان هاني أخطرهم جروحا، كما اعتقدوا، بسبب الإصابات في أعضائه الداخلية، لكن فاضل خاصة هو الذي مات في نهاية الأمر. التقارير الرسمية الصادرة عن سوروكا تُظهر الفظاعة: تمزق بسعة 10 سم في بطن هاني، وجرحان عميقان في صدره. تمزق في الأمعاء الدقيقة استلزم قطع نحو 40 سم وتمزق الأمعاء الغليظة. تمزق في الكلية اليمنى. بقي الجرح في البطن مفتوحا. عُسر في التنفس. وأشياء أخرى، وفي الجملة عشرون تشخيصا. أما فاضل: فقطع الراحتين العليين وحروق في الوجه، «بعد أن أصيب بقذيفة الفوسفور». ويوسف: «تم علاجه بعد أن تفجرت قذيفة الفوسفور به». اختلال في الرئة وحروق في الوجه، وفي اليدين وفي الأجفان. «احترقت الشفة السفلى وانبعث عنها دخان برائحة الفوسفور»، كتب الطبيب. تم تنويمه وإعطاؤه الأوكسجين. محمود: وصل مع جروح كثيرة. «يتبين أنه جُرح بقذيفة فوسفور وُجدت في المنطقة مع اخوته الذين لعبوا بها». تجاهل ناطق الجيش الإسرائيلي في رده السؤال المتعلق باستعمال القذائف الفوسفورية. بل إن الناطق يزعم أنه في المنطقة المُتحدث عنها تجري تدريبات «جافة» فقط، بغير نار حية، بحيث أنه من ناحية الجيش الاسرائيلي لم تكن أي قذيفة قط، واذا ما كانت فليس الجيش هو الذي نسيها هناك. من المثير للاهتمام أن نعرف من الذي نسيها. فيما يتعلق ب «الحادثة» مع عائلة أبو عرام، يأسفون في الجيش الاسرائيلي جدا: «المنطقة المُتحدث عنها والتي حدث الحادث فيها منطقة نار تجري فيها في غضون السنين الست الأخيرة تدريبات جافة بغير نار حية. فضلا على ذلك، في جزء من تدابير مناطق النار، تتم تمشيطات دائمة للبحث عن قذائف متروكة، مرة في كل شهر، الحديث عن حالة مؤسفة، يطلب الجيش الاسرائيلي أن يشارك في حزن العائلة». يضرب هاني كفيه، ويغطي وجهه براحتيه، بعجز. ويعتقد أنه اذا ما وقف فسيسهل الامر عليه، يخطو بضع خطوات في وسط الغرفة، ويشد على بطنه المتألم والمهشم. بعد لحظة يعود ليستلقي. ويتكرر هذا مرة تلو اخرى. في رأسه مواضع صلع نتيجة نار الفوسفور. يعرض محمود الندوب العميقة في كتفه. وما يزال يوسف محروقا وجهه ويداه. بعد يومين من ترك فاضل سوروكا ظهرت عنده صعوبات شديدة في التنفس وبحّ صوته. أخذه أبناء العائلة الى طبيب في يطا قرر أن هذا نتيجة للغاز الذي استنشقه. ازدادت حدة صعوبات التنفس في الايام التي تلت ذلك. ساء وضع الولد. قالوا انهم لم يأخذوه الى سوروكا لانه لم يكن لهم تصريح عبور. ولم يتوجهوا لطلبه عاجزين. يُحظر عليهم أن يسافروا في الشارع الرئيس، فهو للمستوطنين فقط، وعندما ازداد الوضع سوءا نقلوا فاضل بسرعة في سيارة اسعاف فلسطينية الى عيادة في يطا. من هناك أرسلوه الى المستشفى الأهلي في الخليل، حيث وصل هناك مع موت دماغي. بعد ذلك بثلاثة ايام مات فاضل. كان ذلك في الثاني والعشرين من ايلول، بعد نحو ثلاثة اسابيع من تركه سوروكا في «وضع عام مستقر». قدّر طبيب المستشفى الأهلي في الخليل في تقرير الموت الذي أعده أن فاضل مات بسبب حروق في جهازه التنفسي نتيجة الغاز الذي استنشقه في الانفجار، وهي التي انشأت بلغما تسبب في تضييق مجرى التنفس، وسكتة قلبية واختناق. يشك محامي العائلة المخلص شلومو ليكر، أن فاضل حُرر قبل الوقت من سوروكا لانه لم يوجد تمويل لعلاجه، بل انه ينوي أن يرفع دعوى على المستشفى لاهماله. في سوروكا لم يعرفوا قط هذا الأسبوع موت فاضل. رفض مدير المستشفى، الدكتور ايتان حاي - عام، الاتهامات بقوة، وقد رد بواسطة الناطقة عن المستشفى، عيريت بيبي، بهذا الرد: «يعالج المركز الطبي سوروكا في كل شهر عشرات الجرحى والمرضى من منطقة الضفة، من السكان الفلسطينيين، والسياح والماكثين غير القانونيين في إسرائيل، الذين يتوجهون للحصول على العلاج الطبي. يتعلق العلاج الطبي المعطى في سوروكا بالوضع الصحي للمتوجه بغير صلة بمنشئه، أو لغته، أو التمويل التأميني الذي يحمله». وتابع قائلا: «وصل فاضل أبو عرام الى المركز الطبي في 17/8 مع أجهزة التنفس في وضع صعب جدا بعد أن أصيب بقذيفة فوسفورية في تل عراد. في غرفة الطواريء تم تمييز قطع أطرافه العليا وحروق من الدرجة الثانية في الجزء الأعلى من جسمه ووجهه. حصل الفتى على علاج أولي، ونُقل إلى علاج مكثف للأولاد، وأجريت عليه عمليات عدة مرات وعولج في أقسام علاج مكثف للأولاد، وقسم العظام، والجراحة التجميلية وجراحة الأولاد. في 31/8 حُرر في وضع عام مستقر، بغير علامات تلوث أو مشكلات في العظام مع توصية بالمتابعة في عيادة الحروق في منطقة سكنه، بسبب الوضع السياسي في إسرائيل لا توجد لدينا أية معلومات طبية عن الظروف التي مات فيها الفتى. ومع ذلك، فان كل دعوى أو تلويح بدعوى أن الفتى حُرر قبل الوقت بسبب انعدام التمويل، لا أساس لها وتخالف القيم وشكل إدارة المركز الطبي سوروكا منذ كان». نؤكد: مات فاضل بعد ثلاثة اسابيع من تركه المستشفى. هل حُرر مبكرا جدا؟ هل لاحظوا في سوروكا البلغم في مجرى تنفسه الذي تسبب بموته في النهاية؟ هل كان يمكن ملاحظة ذلك عندما ترك المستشفى؟ هل أخذوا في الاعتبار الظروف البيئية التي أُعيد إليها، وهي منطقة بائسة يصعب الوصول اليها؟ والى أي «عيادات الحروق في منطقة سكنه» كان يفترض أن يتوجه؟ سافروا إلى كرمل وسترون القرية التي تخنقها الحواجز الترابية. مُنع الأب الثاكل خليل، أخيرا من أن يصحب هاني لزيارة سوروكا. يجوز للعم فقط. أمن الدولة. أوضح ناطق الإدارة المدنية، آدم أفيدان، هذا الأسبوع قائلا: «حصل خليل أبو عرام على تصريح دخول خاص لشهر، بين 14/9 إلى 14/10 يُمنع دخوله من قبل «الشباك» ولهذا عندما توجه طالبا في المرة الأخيرة تصريحا كان ذلك متأخرا. إذا ما طلب تصريحا قبل يومين من الزيارة القادمة فسيعطى له».انهم يصلون إلى بئر السبع سيرا على الأقدام. عندما تحدثت في هذا الأسبوع الى الدكتور حاي عام عن الغلام هاني الذي يستلقي متأوها ألما على بلاط بيته، وعد بأنه إذا ما جيء به إلى سوروكا فانه سيهتم بأن يعالج فورا. يجب تبديل كيس الفضلات لهاني عدة مرات في اليوم. تقول العائلة أن كل كيس يكلف خمسين شاقلا، وهو ما يعني 250 - 300 شاقل في اليوم، وهم بالطبع لا يملكونها. في هذه الأثناء تجند لمساعدتهم عزرا نفيه من القدس، الذي يعتني بإخلاص بالعائلة المصابة ويقدم لها الأكياس أيضا. ليس واضحا حتى الآن من الذي سيدفع رسوم علاج الاخوة الاربعة في سوروكا، ومن الذي يجب عليه أن يعتني بشفاء جروحهم الصعبة. يوشك المحامي ليكر على أن يقدم دعوى تعويض ضد الدولة التي تركت بإهمال القذيفة الفوسفورية في منطقة عيش بشر. وسيطلب أيضا نفقة مرحلية على العلاجات الطبية. تُثبت تجربة الماضي أن الطريق إلى التعويضات طويلة وصعبة. من المؤكد أن الدولة ستتحلل من مسؤوليتها وتريد إثبات أن إهمال الوالدين هو الذي تسبب بالكارثة. ربما يثبت أن فاضل مذنب بموته وهاني بتعويقه.