"قصة" يتذكر حماد أنه كان مستلقياً في غرفة المخزن ببيتهم القديم هارباً من حزنه وألمه.. حيث عاد من المدرسة مجهداً ضائق الصدر مكسور الخاطر لأنهم ضربوه، وحسموا عليه عشر درجات معتقدين -ظلماً- أنه هو من كتب على السبورة: "يسقط مديرنا الحمار".. غفا قليلاً فيما يتذكر ثم فتح عينيه إلى خشبة السقف فرأى ثعباناً أشهب اللون ملتفاً على إحدى خشبات السقف..! لم يتحرك حماد من مكانه.. ليس يدري لماذا؟! مع أن هذا النوع من الثعابين مخيف فقد لدغ إمام المسجد فغاب عن الصلاة شهرين.. كما يذكر عامل المزرعة "يحيى" فيما كان يحكي أن ابن عمه لدغه ثعبان في بلدهم شبيه بهذا فمات في مكانه.. لم يرتعب، وإنما ظل محدقاً في الثعبان الذي مدّ رأسه الى الخشبة الأخرى، ثم أعاده.. ثم مده مرة أخرى بعد أن زحف بجسده قليلاً ثم أوغل رأسه في مكان هناك، وظلت رقبته تهتز قليلاً، ثم أخرج رأسه وهو يزدرد عصفوراً صغيراً كان في عشه.. ورأى كيف يتكون العصفور في حلق الثعبان منحدراً إلى بطنه.. حرك الثعبان رأسه فيما بين الخشبتين، ثم وضعه على خشبة السقف في هدوء وكأنه يريد أن ينام.. بيد أنه تحرك بجسده كله في التواء محكم على الخشبة، وبعد فترة مدّ رأسه مرة أخرى إلى الخشبة نحو العش، لمح حماد نابيْ الثعبان من داخل فمه الاحمر الذي فغره وهو في الهواء قبل أن يلج في العش.. في هذه الأثناء دخل عصفور من الكوّة الصغيرة في الجدار، ثم طار نحو العش ولكنه ارتد سريعاً ثم أخذ يصيح ويزقزق في حالة عصبية مذعورة.. وفي سرعة مذهلة بدأت تتجمع العصافير وتتوافر، وتزقزق، وترفرف بأجنحتها حول الثعبان وهي تكاد تلامس رأسه، انطوى الثعبان وعاد برأسه نحو جسده، وفي حركة مذهلة اقترب عصفور له رأس كبير، وصدغان أسودان، ومنقار مسماري.. ثم وقع عند طرف ذنب الافعى، وأخذ ينقر الذنب ويقفز مبتعداً ثم يعود وهو أشد حماسةً وإصراراً.. راح ينقر الذنب وما حوله ويخربشه بمخالبه الصغيرة، ويصدر صوتاً حاداً محرضاً.. تداعت العصافير، وتلاحقت وقد أخذت تفعل فعله، فاضطرب الثعبان، ومدّ رقبته فاغراً فمه نحوها، ولكن العصافير، راحت تناوره وتشاغبه في اصرار ونهش بمناقيرها ومخالبها..! حاول أن يفك جسده المنطوي على الخشبة بسرعة، فتدلى جزء منه، فانقضت العصافير عليه، فاستمر يتدلى وينزلق في الفضاء ببطء واسترخاء تحت مناقيرها ومخالبها، حتى هوى وسقط على فراش حمّاد.. قفز حماد هارباً، فهبطت العصافير مشكلة مظلة على الثعبان ترفرف، وتزقزق وتحاول أن تنهش.. وجد حماد أخاه يأكل، ويتمتم أيضاً، لا يدري لماذا.. كان يتمتم..؟ نبهه حماد في فزع إلى الثعبان الذي سقط في قلب المخزن، حكى له قصة العصافير وقال له في حماسة: قم يا أخي أسرع، كي نقتل الثعبان قبل أن يتوارى في مخزننا، ولنساعد العصافير على قتل ابن الحرام..! صاح أخوه في وجهه وشد طرف ثوبه وأخذ يجره نحو الأرض وهو يرتعد قائلاً: اجلس.. أتريد أن تقترب من الثعبان يا مجنون..؟ رد حماد وهو يحرك يديه في انفعال ويحاول الانفلات: لنقتل الثعبان يا أخي.. ربما يلدغ أمنا، ربما يلدغ أختنا أو أخانا الصغير.. هيا لنقتله يا أخي قبل أن يقتلنا.. صرخ أخوه في وجهه ثم صفعه في عنف وهو يقول: اجلس يا كلب.. اجلس يا حمار.. وجلس حماد ولكنه منذ ذلك الحين ظلّ يشعر دائماً أنه من جملة الكلاب والحمير..