ما هو المجتمع المعولم؟ كيف يُمكن تعريفه؟ وما هي سبل الوصول إليه؟ ومتى يغدو قوة دافعة لجهود التنمية؟ بداية، نحن بصدد مفهوم إشكالي، يبدو عصياً في كينونته النظرية، وسياقه المنهجي، وذلك على الرغم من قربه العفوي "الإرادي" إلى العقل والوعي العام، بحكم الواقع، ومعالمه الحسية الملموسة. إننا في هذا الشرق، بكافة مناطقه، معنيون ببلورة السياسات التي من شأنها وضع دولنا على مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستلهمة لفرص العولمة ومضامينها الخلاقة، المنسجمة مع إطارنا التاريخي والحضاري.. إن الإشكالية هنا هي أن "المدرك العام" لا يُعد بالضرورة تعبيراً رديفاً لخلاصة التأصيل النظري المتماسك منهجياً. وعليه، يُمكن أن ننتهي مبدئياً إلى أن "المجتمع المعولم"، قائم بمعنى ما، في سياق حسي مدرك يشعر بوجوده عامة الناس، إلا أنه بحاجة إلى تأصيل نظري، فلسفي - سوسيولوجي، واستتباعاً سياسي وجيوسياسي عام، ليصار بعد ذلك إلى فرضه كمعطى ثابت في التداول المعرفي ذي الصلة بقضايا التكوين الاجتماعي وتعريف المجتمع. وربما لاحقاً مفهوم الدولة القومية ذاتها. ودعونا الآن نطرح السؤال الابتدائي التالي: ما هي المبررات التي تدفعنا للقول بوجود مجتمع معولم؟ إن الإجابة تبدو بدهية إلى حد كبير، وتتمثل في كلمة واحدة هي: العولمة. العولمة بمدلولها العام، ومضمونها القيمي، شكلت مجتمعاً عابراً للحدود، تداخل في كل شيء: العادات، والهموم والتحديات، وبالضرورة التطلعات والآمال. هذا المجتمع، له نطاقان جغرافيان: الأول محلي، والثاني كوني. يتواجد حسياً في الأول، ومعنوياً في الثاني. وبتفاعل الأول مع الثاني ينتج العالم المعولم: الحسي/ المفتوح الامتداد، الذي هو بالضرورة عالماً واقعياً في المجمل، أو لنقل في الخلاصات الفعلية. وما هي سمات هذا المجتمع وخصائصه؟ إنه مجتمع الأفكار والرؤى المتدفقة، والوعي المتحرر من القيود، والفهم المتقارب للحاضر، كما المستقبل، واستتباعاً لإرهاصات الواقع وتحدياته، وما يحمل من بشائر ونذر. هذا المجتمع، هو أيضاً مجتمع التقانة الصانعة للمعرفة، والمرسلة لها، والمحفزة عليها. وعلى المستوى القيمي، نحن بصدد جيل بدا حاضره المدني وقد ابتعد بسرعة عاتية عن ماضي آبائه وأجداده الأقربين، كما بدا، في الوقت ذاته، أكثر قدرة على استشراف مستقبله. وهذا المتغيّر، التاريخي الطابع، هل هو مكسب تاريخي أيضاً، أم هو عبء على الحاضر كما التاريخ ذاته؟ بالطبع، نحن بصدد مكسب، فائق في تاريخيته، ولا أرجحية، بأي حال، للتشكيك فيه. وعلى الرغم من ذلك، لا بد من الانتباه إلى حقيقة أن مضمون المتغيّر لا يُمثل تعبيراً رديفاً لاتجاهاته. هذا المضمون، ثابت كفلسفة ومغزى، إلا أن طبيعة اتجاهاته تبقى خاضعة للمنظور القيمي والمقاربة الأدواتية. وبتعبير آخر، إننا بصدد قيمة تاريخية وحضارية ثابتة وأكيدة على مستوى المدخلات، إلا أن ماهية مردودها تبقى مرهونة بالمنظور الذي يحكم استخدامها والتعامل معها. إن الأمر هنا أشبه ببرميل نفط يُمكن اعتماده في إنارة مدرسة، ويُمكن استخدامه في حرق غابة جميلة. هذا هو تحديداً فارق المنظور القيمي والمعياري، فالمجتمع المعولم يُمكن أن يصبح وسيلة مثلى لتطوّر العالم، لكنه قد يغدو سبباً لتعويم الأزمات، وضرب البنى الثقافية، وإنهاك فلسفة التنوّع، والتعددية الحضارية والاجتماعية. هذه المعضلة تماثل معضلة برميل النفط: هل ينير المدرسة أم يحرق الغابة؟ إن المشكلة ليست في البرميل بل في كيفية استخدامه. وهل نحن في الشرق أكثر التصاقاً بهذه المعضلة من نظرائنا في الغرب؟ قد يبدو لكثير من الناس أن الأمر هكذا فعلاً. إلا أن المسألة أكثر تعقيداً مما قد يكون انطباعاً سائداً لدينا. صحيح بالطبع أن العولمة، واستتباعاً فكرة المجتمعات المعولمة، قد ولدت في الغرب، لكن الصحيح أيضاً هو أن هذا الغرب، حاله حال الشرق، لديه منظومة خياراته وقناعاته التي يخشى عليها. وأنا كاتب هذه السطور كنت مقيماً في المملكة المتحدة، وكان ذلك في بدايات انتشار ثورة الانترنت. وعندما أردت مد خط إلى جهاز حاسوبي الخاص، لمواكبة التطوّرات العامة، توجست العائلة من هذا الأمر، لأن لديها أطفالاً وفتية، وقالت لي: حبذا لو تستغني عن هذه الفكرة، فنزلت عند رأيها. وقلت للعائلة ما يهمك يهمني. إذاً، القضية واحدة من حيث الأصل. والفرق هو فرق نسبي، يرتبط بدرجة الانفتاح الاجتماعي والثقافي، الذي هو أكثر تأصلاً في المجتمعات الغربية. بقي هناك عنصران أساسيان في سياق هذه المقاربة: يرتبط الأول بفرص بناء المجتمع المعولم. ويتصل الثاني بكيفية جعله مجتمعاً خلاقاً ونهضوياً. إذا انتهينا للقول بأن المجتمع المعولم حقيقة قائمة بالفعل، تتعزز يوماً بعد آخر، وتغدو أكثر تجلياً، وأشد تأثيراً في مسارات الحياة ودروبها، فإن السؤال هو: هل يُترك تطوّر هذا المجتمع ليأخذ مساراً عفوياً، لا دور للدول في التأثير فيه؟ بالطبع، قد لا يبدو ذلك خياراً مثالياً. إن المطلوب هو وضع البرامج والسياسات المحفزة لبناء هذا المجتمع، بما هو قيمة عصرية. وهذه مهمة عامة، وواسعة المدى، تعنى بها النخب السياسية والثقافية، والقوى المؤثرة في المجتمع عامة. إن اقتناء المرء للحاسوب لا ينتج بالضرورة مجتمعاً معولماً. إن الأمر هنا يرتبط بدرجة النضج الثقافي والاجتماعي، والرؤية الخاصة للحياة، وللمحيط بفضائه المفتوح. إن مجتمع التقانة لا يُمثل تعبيراً رديفاً للمجتمع المعولم. إنه إحدى مقدماته وحسب. إن التواصل المستدام مع العالم، والتفاعل الخلاق والممنهج مع فرصه، هو الطريق لبناء المجتمع المعولم. وحتى يحدث ذلك، لا بد من خلق الوعي بداية، كي لا يغدو الحاسوب أداة للتسلية وإضاعة الوقت. والصحيح أيضاً أن الحاسوب قد يكون، في سياق سلوكي ما، طريقاً للانغلاق على الذات، والابتعاد عن المجتمع والنأي عنه. وهذا منزلق خطير، لا يبني مجتمعاً معولماً، بل يقوّض بدلاً من ذلك تماسك المجتمع المحلي، ويحوّله إلى أفراد متباعدين، لا يعيش أحدهم هموم الآخر، أو يشاركه تطلعاته. وهذه المسألة، متى حدثت، فإن تكنولوجيا المعلومات تصبح بالضرورة أداة تدمير لا بناء. ولذا، فإن الوعي مقدمة لا غنى عنها لجعل هذه التكنولوجيا طريقاً لبناء المجتمع المعولم. بعد ذلك، إذا افترضنا أن دولة ما قد نجحت في بلورة وعي وسياسات معينة تمكنت في مجموعها من تكوين مجتمع معولم، بالمعنى النظامي للمصطلح، فإن السؤال هو: كيف يُمكن لهذه الدولة أن تجعل من مجتمعها المعولم دافعاً لمقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، استناداً إلى خصائصه المعولمة؟ تجب الإشارة، بداية، إلى أن عدداً محدوداً فقط من دول الغرب قد تمكنت فعلاً من بناء ما يُمكن أن يُطلق عليه مجتمع معولم. وهذه مسألة خيار استراتيجي كبير، ارتكز إلى منظومة برامج وسياسات واسعة النطاق، ومتعددة المسارات، وضعت لأجلها الكثير من القدرات. ولم تصل هذه الدول إلى ما وصلت إليه على نحو عفوي. أما كيف تجعل هذه الدول من مجتمعها المعولم مجتمعاً خلاقاً، فالأمر يعود إلى بناء الوعْي وبلورة البرامج والسياسات، الكفيلة بجعل هذه المجتمع أكثر التصاقاً بالهموم العامة. ويُمكن القول، على نحو مجمل، أن المجتمع المعولم يُعد، بحكم الأمر الواقع، أكثر انخراطاً في الحياة العامة، بشتى تفاصيلها، كما أنه أكثر تدبيراً لذاته وشؤونه. وهو بالتالي عوناً لبلاده، وعامل تحفيز لفرص نهوضها وتطوّرها. وفيما هو أبعد من ذلك، يُمكن التأكيد الآن على حقيقة أن تشكل المجتمع المعولم قد أعاد صياغة دور الدولة ذاتها. وهذا متغيّر تاريخي آخر. إننا في هذا الشرق، بكافة مناطقه، معنيون ببلورة السياسات التي من شأنها وضع دولنا على مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستلهمة لفرص العولمة ومضامينها الخلاقة، المنسجمة مع إطارنا التاريخي والحضاري، والمتجهة حكماً للإجابة على الأسئلة الكبرى ذات الصلة بمستقبلنا. وعلينا، في سياق هذا الهدف ومقدماته، الاهتمام ببناء جيل مدرك لعصره، ومستنفد لعوامل القوة فيه، وساعٍ لتسخير طاقاته المعولمة في خدمة الأوطان وتنميتها. وهذه مهمة لا تنهض بها نخبة معينة، أو مؤسسة بذاتها، مهما بلغت جهودها، بل هي بالضرورة مسؤولية عامة، تساهم فيها كافة الطاقات. والمطلوب بداية التركيز على بناء الوعي، لأنه المقدمة الصحيحة للناتج الصحيح الذي ننشده.