مضت سنوات قليلة على تعيينه معلما في إحدى المدارس، كان شغوفا بالعمل الجديد، مقبلا بكل عواطفه، يشعر أنه وجد ضالته في هذا العمل، ويحقق مطلبه في أن يعطي الآخرين كثيرا مما تعلمه وتدرب عليه في الجامعة، ويبني جيلا يتحمل مسؤوليته في المستقبل. لكن مع كل هذا لا تزال خبراته قليلة كي تؤهله لأن يصل في تطبيقاته إلى اليقين بأنه على قمة النجاح، فكل حصيلته مجموعة نظريات تعلمها في الجامعة وطرائق تدريس جلها من كتب أصحابها، ويتكئ كغيره على دروس الحياة التي تلقاها في أسرته ومجتمعه، دروس فيها التناقض أحيانا والأخطاء الكثيرة والصرامة حيناً في فتح العقول، وإجبار من لا يرغب على ما نرغب دون مناقشة تذكر ولا حوار يفتح له باب بالقبول وإنما يكسر عليه كسرا. ولأن لكل طريق في الحياة منعطف تستجد معه المشاهد ويتبدل معه كل شيء حتى القناعات وما يتبعها من سلوكيات، فإن المنعطف الذي قابله كانت عبارة قصيرة من حروف معدودة، ولم تصدر من مختص تربوي أو من مدرب لكنها عملت على تعديل المسار بلا اختيار. هذه العبارة هي: (أنت مثل أبوي) عبارة قالها التلميذ بعفوية وهو ينظر إلى وجه المعلم، وفي عينيه براءة الأطفال ونقاؤهم، يقولها وهو بلا ملامح فرح ولا غضب ولا دهشة ولا تعبير محدد ولكنه ينطقها بوضوح يرغب إسماعه إياها ويطلب فهمها من قبل المعلم، كأنه بالفعل يريده أن يفهمها جيدا. التلميذ بادر المعلم بقولها من دون مقدمات، قالها في فترة هدوء الفصل من أي صوت، وفي لحظة قد توقف المعلم بجانبه متفرغا لتصحيح دفتر الواجبات والطالب في حال استقرار على كرسيه جالساً في هدوء وانتظار وترقب، تبرق عيناه متطلعا لأمل قادم ونافذة من الحنان والرفق والشفقة تفتح له. رددها مرتين قال: يا أستاذ أنت مثل أبي، حتى تأكد أن المعلم قد سمعها، لكن المعلم رغم سماعها واستيعابها لم يجبه بشيء على تلك العبارة؛ لأنها ملأت كل أحاسيس قلبه وروحه، وطار ذلك المعلم فرحاً، مردداً بينه وبين نفسه لقد نجحت وأنا في أول سلم ودرجات العملية التربوية والتعليمية لأصعد إلى قمة الرضا عن نفسي، ما أعذبه من شعور وما أجمله، عاش يومه في فرح وسرور، ليقول لكل زملائه وللمدير، لقد حصلت اليوم على أكبر شهادة وأحسن تقدير، شهادة من طفل لا تزال صفحة نفسه بيضاء نقية، لا تعرف النفاق ولا المجاملة، لقد قال لي "أنت مثل أبي". إنني أعتز بأقوال هؤلاء الصغار أكثر من تقدير الإدارة أو المشرف التربوي. مرة أخرى وفي درس آخر كرر التلميذ العبارة نفسها، يا أستاذ (أنت مثل أبي) ثم في المرة الثالثة قالها التلميذ، وهنا سأله المعلم ما المقصود بعبارتك التي كررتها عدة مرات، هل تعني أنني أشبه أباك، قال التلميذ: نعم يا أستاذ أنت مثل أبي: عندما يعلمني ويقرأ الموضوعات التي يعملني إياها لأكمل واجباتي المدرسية في المنزل يكون غاضباً مني من دون سبب، يزعق في وجهي كلما تأخرت إجابتي، وإذا لم أفهم يتهمني بالغباء، ثم يرمي دفتري ويقول: إن الذين مثلك مستحيل أن يتعلموا ثم يخرج من البيت، وأنت كذلك، تزعق وترفع صوتك علينا وتقول مثل ما يقول أبي، تقول: مستحيل مثلكم ينجح أو يتعلم ثم ترمي دفاترنا وتخرج من الفصل. مسك المعلم رأسه، وجلس في غير مكان جلوسه المعتاد من هول المفاجأة، حيث وجد كرسي أحد الطلاب شاغراً فجلس عليه وكأنما اصيب بنوبة من الصداع، وقال يا ليتني ما سألتك، ويا ليتني بقيت على ظني الأول في نفسي ولو كان وهماً، فالوهم أحياناً من مسكنات الحياة والواقع، لكن رب ضارة نافعة، لقد نبهتني من دون دورة تدريب أن أقوم ذاتي من خلال رؤية الآخرين، وألا أكون مثل أبيك، ولا أشبه طريقته، ولكن اعذره يا بني فهو ليس تربوياً لكن المصيبة أن أكون أنا لست تربوياً رغم اعتقادي أنني كذلك، فقد أوهمتني الكتب والنظريات أنني استوعبتها، لكن وعد وعهد من اليوم لك مني لن تسمع صراخاً أبداً، لقد عمتني في تشبيهك هذا درساً خيب ظني في نفسي، ووضعني نقدك لي في مكاني الذي استحقه بالفعل.