تحولت باريس بعد الثورة الفرنسية في عام 1789م، إلى مركز اشعاع ديمقراطي، جذب فكر أهل الأرض إلى مبادئ هذه الثورة، التي اخذت تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة، وتحت مظلة هذه المبادئ السياسية البراقة، تولى الشعب الفرنسي مقاليد الحكم في باريس، وقامت حياة برلمانية متزامنة مع الثورة في عام 1789م عرف في بداية أمره باسم «مجلس الطبقات» وأصبح فيما بعد يعرف باسم «الجمعية الوطنية» الاسم الرسمي للبرلمان الفرنسي منذ ذلك الزمان إلى أيامنا الحاضرة المعاصرة. أفسد هذه الحياة الديمقراطية الفرنسية الرائدة التي قامت على الأرض قبل أكثر من مائتي عام، وهي بالتحديد 216 سنة، العسكر الذين قفزوا إلى السلطة في باريس، بفكرهم المحدود الذي يأخذ «بالطبقية الوظيفية» التي فرضت معاملة الناس مثل العسكر بالأمر والنهي وعليهم الطاعة بدون مناقشة، ومنذ ذلك التاريخ ثبت عدم صلاحية العسكر للحكم، وكل تجربة لحكمهم في كل بقاع الأرض جرت على الأوطان التي حكمها العسكر كوارث، افقدت الإنسان حريته، وغيبت العدالة بين الناس، وقضت على المساواة بتقسيم المجتمع إلى عسكر يحكمون «اسياد» ومواطنين يخضعون «عبيد» وظهر من بين صفوف عسكر الثورة الفرنسية الجنرال روبين بيير الذي ساق آلاف المواطنين الفرنسيين إلى الموت «بالمقصلة» وجاء بعده الجنرال نابليون بونابرت الذي ساق آلاف المواطنين إلى الموت «بالحرب» ضد سكان الأرض، ان العسكر إذا جاءوا إلى السلطة افسدوها، وكذلك يفعلون في كل زمان ومكان. الفساد السياسي الذي أصاب الثورة الفرنسية، بين عسكر فرنسا، لم يلغ الاعتزاز بالمبادئ التي جاءت بها، واستند دستور الجمهورية الرابعة الفرنسية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1946م إلى شعار الثورة «الحرية والمساواة والاخاء»، ولكن عسكرها افسدوا هذه المبادئ مرة أخرى بمحاولة «فرنسة الجزائر» وواجهوا مقاومة أهلها بحرب واسعة، ومارست حكومة جين مولييه أول عملية إرهابية في الجو، باختطاف الطائرة المغربية في عام 1956م وعليها زعماء الثورة الجزائرية احمد بن بيلا، وحسين ايت احمد، ومحمد بوضياف ومحمد خضير، وفتح هذا الملك الإرهابي الفرنسي في الجو عملية اختطاف الطائرات، وخرجت الجمهورية الرابعة الفرنسية عن ثيابها الديمقراطية مرة أخرى في نفس العام 1956م بالعدوان الثلاثي على مصر، نتيجة تآمر باريس مع لندن مع تل أبيب على مصر التي أممت قناة السويس قبل انتهاء امتياز ادارتها الأجنبية في عام 1968م قامت على انقاض الجمهورية الرابعة الفرنسية في يوم 4 اكتوبر من عام 1958م الجمهورية الخامسة الفرنسية بزعامة الجنرال شارل ديجول، وهو ليس كغيره من العسكر في الحكم لأنه جاء إلى السلطة باختيار الناس له من خلال الانتخابات الشعبية ولم يأت إلى السلطة على دبابة، مثله مثل الرئيس الأمريكي الجنرال دوايت ازينهاور ولا يعرف التاريخ غيرهما من العسكر، من استطاع أن يحكم بالفهم المدني الديمقراطي وبعيداً عن عقلية العسكر الديكتاتورية في الحكم.. هذا الأسلوب الديمقراطي جعل المادة الثانية من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية تنص على ان «فرنسا جمهورية علمانية وديمقراطية وان جميع المواطنين متساوون أمام القانون بدون تميز بسبب الأصل أو اللون أو الدين».. ولما كان هذا الدستور لايزال ساري المفعول حتى اليوم في فرنسا، فإن الشغب الذي وقع بها والذي بدأ في يوم 27 اكتوبر من عامنا الحالي 2005م يفرض التعامل معه تحت مظلة الدستور الفرنسي الذي يقرر بأن «الدين لله والوطن للجميع» العلمانية، ويأخذ بالسبل الديمقراطية في معالجة المشاكل فوق أرض فرنسا، على أساس ان الناس جميعاً متساوون أمام القانون إذا أخذنا بهذا المعيار الدستوري في التعامل مع ثورة الفقراء في فرنسا، لوجدنا واقع الحياة اليومية بها يتناقض مع هذه المبادئ الدستورية التي تنص عليها المادة الثانية. إن ما يحدث في فرنسا اليوم من ثورة الفقراء يثبت بصورة قاطعة بأن الفقر يطاق في المجتمعات الفقيرة، ولكنه لا يطاق في المجتمعات الغنية، وخطورته بها يماثل خطورة الألغام والقنابل الموقوتة التي تقلب الأوضاع رأساً على عقب.. ولست في حاجة ان اذكركم بأن «ثورة الخبز» التي تسمى احياناً «بثورة النساء» اللاتي سرن على الاقدام من باريس إلى قصر فرساي، وأخذن يطالبن الملك لويس السادس عشر بتوفير الخبز لهن ولأسرهن، واستغربت ماري انطوانيت زوجة أو عشيقة الملك، وتساءلت لماذا لا يأكلن البقلاوة بدلاً من الخبز؟ ولا يخفى على أحد ان نتائج الفقر في المجتمع الغني الفرنسي في ذلك الزمان قلبت الأوضاع في فرنسا رأساً على عقب بالثورة الفرنسية. إن التعامل مع ما يحدث في فرنسا يتطلب الأخذ بالنظرة الشمولية التي تربط بين فرنسا وبين الدول التي استعمرتها طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وربطت فرنسا الدول التي استعمرتها في افريقيا وآسيا بالثقافة الفرنسية، وأقامت خلال السنوات القليلة الماضية منظمة الدول الناطقة باللغة الفرنسية «الفرانكوفونية» وكان من الطبيعي ان يهاجر ابناء هذه الدول إلى فرنسا لسعة الرزق بها، ونعومة الحياة فيها، بل ان فرنسا سعت بنفسها إلى استضافة الناطقين بلغتها والآخذين بثقافتها وفتحت أبوابها على مصرعيها للعمالة الوافدة إليها من مستعمراتها السابقة سواء كانت الدول العربية أو الدول الإسلامية، ليس فقط بسبب رخص الأجر الذي تتقاضاه العمالة الوافدة، وإنما ايضاً لسد فراغ نقص المواطنين القادرين على العمل الذي غيب الموت الملايين منهم في الحرب العالمية الثانية، ولا يخفى على أحد ان فرنسا قدمت تسهيلات للعمالة الوافدة إليها باستقبالهم مع أسرهم، وكذلك فتحت السبل إلى ارتباطهم بالزواج من بنات البلد الفرنسيات، وانعمت عليهم جميعاً بالمواطنة الفرنسية بمنح جميع الوافدين إليها الجنسية الفرنسية. أدى التقدم التكنولوجي، وعثرات الاقتصاد الفرنسي في مجال التجارة الدولية بسبب ارتفاع سعر اليورو الذي صنعته أمريكا، إلى تقلص العمالة في المصانع الفرنسية، ونقصان فرص العمل في المجالات التجارية المختلفة وارتفعت البطالة بين الشباب الفرنسيين من أصول غير فرنسية إلى درجة تتأرجح بين 21٪ وبين 36٪ والنسبة الأقل ترتفع في نتائجها إلى أكثر من ضعف العاطلين عن العمل في كل الوطن الفرنسي. الضيق بالفقر المدقع، والاحساس بفقدان المستقبل، وانعدام الروابط مع الأوطان الأصلية التي جاءوا منها إلى فرنسا، يغلق كل احتمالات العودة إليها، وزاد من معاناة هؤلاء المواطنين ان حركة الحياة الطبيعية اليومية في فرنسا تهمش وجودهم وتجعلهم فاقدين للهوية مما زاد من عنفوان حركتهم بالعنف لإثبات وجودهم والدفاع عن حقوقهم كمواطنين فرنسيين يضمن لهم الدستور الفرنسي الساري المفعول المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات مع كل فئات الشعب الفرنسي، ويتحقق ذلك برفع شظف العيش عنهم، أما بفتح سبل للعمل لهم، وأما بالانفاق عليهم لأن تركهم كماً مهملاً يزيد من أعمال العنف التي لا يمكن ان توصف بالإرهاب لأنهم لا يعتدون على أحد، وإنما يمارسون حقهم في الدفاع عن أنفسهم كمواطنين فرنسيين، هذه الحقيقة هي التي جعلت وزير الداخلية بمسيو ساركو يفشل في قبضته الحديدية ويعجز عن تطهير الثوار الفقراء بخراطيم المياه، وأصبحت فضيحته بجلاجل وتطالب الأجنحة المعارضة في الجمعية الوطنية بضرورة استقالة وزير الداخلية لجهله بحقيقة ما يحدث في المناطق الفقيرة التي تستفزها الحياة الغنية الرغدة في المناطق المرفهة بالغنى. استطاع الرئيس الفرنسي جاك شيراك ان يخدر المشكلة القائمة في الأحياء الفقيرة الفرنسية بالوعود التي ترتكز على معالجة الأسباب التي أدت إليها، دون التعامل مع النتائج التي ترتبت عليها، وهذا الفهم الحضاري لمشكلة الفقر في فرنسا جعل الشرطة تلملم العنف دون إراقة نقطة دم واحدة، والعالم ماسك قلبه خوفاً من فقر يحرق فرنسا.