كيف يبدو واقع البحث العلمي في ظل بيئة دولية مُعولمة؟ هل ثمة علاقة بينه وبين ظرفه الزمني العام، الذي يتجاوز مادة البحث ذاتها؟ بداية، نحن بصدد متغيّر قيمي، كوني الطابع، تجسد في الثورة الرقمية، وأفرز، على نحو سريع، منظومة واسعة من المتغيّرات التابعة، ثقافياً واجتماعياً، وعلى المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية. هذا المتغيّر، التاريخي الطابع، أعاد تشكيل العالم القائم، فلم يعد ما قبله يُماثل ما بعده. لقد اعتادت غالبية هذه الجامعات على تخصيص مقرر باسم البحث العلمي، يأخذه الطالب مرة واحدة خلال سنوات دراسته. وهو غالباً ما يكون عن ملزمة، أو جزء من كتاب، يشرح مناهج البحث العلمي، وبعض أصوله الأساسية. وهذا أمر محمود في المجمل. بيد أنه لا يفي بالغرض بأي حال من الأحوال، خاصة وأنه نظري مجرد. وقد رمت الثورة الرقمية بتداعياتها على العلوم في اتجاهين متباينين: الأول، كشف عن قصور المناهج القائمة، أو لنقل غالبية هذه المناهج، حيث بدت غير قادرة على استيعاب القدر المتعاظم من المتغيّرات، بزخمها الكبير وسرعتها غير المسبوقة. والثاني، تكشّف الكثير من المعطيات، في الحقول كافة، على نحو يُمكن الارتكاز عليها في تطوير العلوم، وتوسيع مجالاتها. وفي ذلك انعطاف تاريخي الدلالة، سيكتب عنه المؤرخون الكثير. وبين البُعدين الأول والثاني، يبرز البحث العلمي باعتباره حاجة أصيلة، تضاعفت أهميتها، وتقدم موقعها في أولويات الأمم والشعوب. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا عن البحث العلمي ذاته؟ بالطبع، لقد خضع البحث العلمي لذات المتغيّر الرئيسي، الكوني والتاريخي الطابع -المتمثل بالثورة الرقمية-الذي خضعت له العلوم، في شقيها التطبيقي والإنساني. وعلى الرغم من ذلك، فإن حيثيات التأثير هنا بدت أقل تعقيداً، لجهة غياب بُعدها القيمي (وربما المعياري). وهذا هو الاستنتاج التحليلي المبدئي الذي يُمكننا الخروج به. في المقابل، يُمكن القول إننا اليوم أمام تعاظم كبير للتحديات التقنية، والمنهجية العامة، التي باتت تواجه البحث العلمي، على نحو لم يُعد من السهل الارتكاز إلى ذات السبل التقليدية، والركون تالياً إلى نتائجها. وهناك ثلاثة تجليات لهذه المقولة، يتصل الأول بالمناهج البحثية، ويرتبط الثاني بأدوات التحليل (وما في حكمها)، ويشير الثالث إلى منظومة المصادر العامة. وسوف نقصر حديثنا هنا على قضية المصادر، كونها تفرض نفسها، في نهاية المطاف، على مسألتي المنهج وأدوات التحليل. بداية، قد يبدو هذا الاستنتاج مستغرباً نوعاً ما بيد أن هذه هي حال أي عمل بحثي يلتزم الواقعية، ويبتعد عن المقولات والأطر الجاهزة. ولنفترض أن باحثاً ما كان لديه منهج متماسك وأدوات تحليل ذات جدارة، لكنه لا يملك من المصادر (واستتباعاً قاعدة البيانات) ما يعتد به، فما الذي يُمكنه أن يفعل بمنهجه وأدوات تحليله؟ ولنفرض أيضاً أن هذا الباحث كان يسعى للعثور على مادة علمية معينة، أو لنقل نسقاً مضمونياً محددا، ليضعه في قالب منهجي محدد سلفاً، وأدوات تحليل محددة أيضاً، لكنه لم يتمكن من العثور على نوعية المادة المتصوّرة في الأصل، وذلك بسبب طبيعة المصادر المتداولة واتجاهاتها، لا نتيجة وهنها أو ندرتها بالضرورة، فهل سيبقى هذا الباحث متمسكاً بمنهجه وأدوات تحليله؟ في الحقيقة، إن هو فعل ذلك فستكون هذه غواية منهجية وحسب. ودعونا الآن نتحدث عن "المصادر" في ضوء الثورة الرقمية. ربما يرى الكثير من الناس أن الثورة الرقمية قد سهلت على الباحث الوصول إلى مصادر بحثه، وسهلت عليه الوقوف على قدر كبير من الخيارات. وهذا صحيح دون ريب. وعلى الرغم من ذلك، فإن للصورة وجها آخر. لقد فجرت الثورة الرقمية بركاناً من المعلوماتية في شتى الحقول. وهذه المعلوماتية (أو المعلومات والحقائق والأرقام) تُمثل كنزاً ثميناً للباحثين والدارسين في مجالاتهم المختلفة. هذا الأمر جعل الوصول إلى المصدر أكثر يسراً، إلا أن الوقوف على الحقيقة بات أكثر صعوبة، كما أضحت القدرة على الاختيار تحدياً لا يسر فيه. والأهم من ذلك كله، هو أن إمكانية التأصيل (أو الابتكار أو الفتح العلمي) في عالم معولم لم تعد أمراً سهلاً أو يسيراً، بأي حال من الأحوال. إن فلسفة التأصيل ذاتها قد تغيّرت اتجاهاً ونطاقاً، "فالجديد العلمي" يجب أن يكون جديداً بالمعيار العالمي، لا الوطني أو الإقليمي، فالناس اليوم لا تقرأ فقط لمن هو في بلادها أو في الجوار الجغرافي، بل لأي كاتب في أي مكان من العالم. هذا هو التحدي، التاريخي الطابع، الذي بات يواجه الباحثين، في الحقول المختلفة، ولا سيما في الدراسات السياسية والجيوسياسية. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الثورة الرقمية تبقى نعمة للباحثين لا نقمة عليهم. وهي نعمة للناس كافة، متى أحسنوا استخدامها والإفادة منها. وفي سياق مقاربة المصادر ذاتها، ثمة ملاحظة علمية لا بد من الإشارة إليها، وإن على عجل، وذلك لأهميتها البالغة. هناك تقليد معتمد لدى الكثير من الجامعات في البلاد العربية، يقضي بتحديد نسبة المصادر الإلكترونية إلى إجمالي مصادر البحث بين 15 إلى 20%. وفي الحقيقة، فإن هذا التقليد كان مفيداً في السنوات الأولى لانتشار الشبكة العنكبوتية، إذ كانت المواد الإخبارية والصحفية تهيمن على جزء كبير من هذه الشبكة قياساً بالدراسات العلمية والأوراق الأكاديمية، ولذا كان هناك خوف وحذر من انجرار الطالب إلى المواد السطحية والركيكة المضمون. هذا الواقع، تبدّل اليوم على نحو كبير، وباتت أمهات الدوريات العالمية متاحة على الشبكة العنكبوتية، بل إن محتوياتها متوفرة بأثر رجعي، يعود بعضها إلى خمسين عاماً. كذلك، فإن غالبية عظمى من مراكز الأبحاث حول العالم تنشر الآن دراساتها وأبحاثها على الشبكة العنكبوتية. وهي متاحة مجاناً في الغالب. وعليه، نرى من الأجدر بجامعاتنا تجاوز تقليد النسبة الخاصة بالمصادر الإلكترونية، وترك المجال مفتوحاً للطالب كي يأخذ ما هو أكثر رصانة، وأكثر موثوقية، ليكون بحثه منسجماً مع الواقع، وقبل ذلك مع تطلعاته. وكما نسب المصادر الإلكترونية، كذلك النسب الخاصة بالمصادر الشفوية (أو المصادر المباشرة) لا بد من إعادة النظر بشأنها هي الأخرى. إن هذا التقليد يُعد قديماً جداً، بقدم البحث العلمي ذاته. وعلى الرغم من ذلك، فإن الثورة الرقمية قد جعلته غير ذي جدوى. إن المصادر الشفوية لم تعد اليوم حصراً على اللقاء المباشر، كما كانت الحال بالأمس؛ فالتطبيقات المختلفة في الهاتف الجوال تُعد في حكم المصادر الشفوية، بما في ذلك، على سبيل المثال، تطبيق "Whats App"، فالباحث يُمكنه الآن، مثلاً، الاتصال بشخصية سياسية في أقصى الأرض لأخذ معلومة قصيرة أو قاعدة بيانات مكتوبة، ذات صلة ببحثه من خلال هذا التطبيق. وفي المجمل، لا بد من التأكيد على أهمية دفع الطالب للإفادة بأقصى قدر من الثورة الرقمية وشبكة الإنترنت وهو يسعى لكتابة بحثه. ودعونا نأخذ هذا المثال: هب أن طالباً، في قسم التاريخ أو العلوم السياسية، قد طلب منه كتابة بحث عن تجربة الحرب في إيرلندا الشمالية، فهل الأجدر بهذا الطالب الذهاب إلى الكتب المتاحة في مكتبة الجامعة، والمكتبات المحلية، أو الذهاب عوضاً عن ذلك إلى الدراسات الإيرلندية والبريطانية التي كتبها باحثون وساسة محليون، وجرى نشرها كاملة على الشبكة العنكبوتية؟ ونحن هنا بالطبع لا نتحدث عن دراسات منشورة في دوريات ومواقع بحثية وحسب، بل عن كتب كاملة متاحة الآن على الشبكة، ويُمكن للجميع الدخول إليها دون مقابل. إنني أعتقد جازماً أن هذا الخيار هو الأكثر واقعية، والأكثر انصافاً للطالب، الذي لا بد أن نخرجه من عتق الروتين، ونشجعه على الذهاب نحو ما هو جديد وأكثر قرباً من الواقع. أخيراً، من المفيد أن نشير، في سياق هذا الايجاز، إلى مسألة تدريس مادة البحث العلمي في الجامعات العربية. لقد اعتادت غالبية هذه الجامعات على تخصيص مقرر باسم البحث العلمي، يأخذه الطالب مرة واحدة خلال سنوات دراسته. وهو غالباً ما يكون عن ملزمة، أو جزء من كتاب، يشرح مناهج البحث العلمي، وبعض أصوله الأساسية. وهذا أمر محمود في المجمل. بيد أنه لا يفي بالغرض بأي حال من الأحوال، خاصة وأنه نظري مجرد. إن المطلوب هو توسيع هذا المقرر، ومنحه بُعداً تدريبياً، ليكون بوسع الطالب التعامل مع كافة مناهج البحث العلمي ذات الصلة بتخصصه، أو بالسياق الأوسع لهذا التخصص، إن في العلوم الإنسانية أو التطبيقية. كذلك، فإنه في إطار تخصص الطالب، لا بد أن تكون كتابة الأبحاث عملية مستمرة طوال سنوات الدراسة، فهذا المسار هو السبيل الأمضى لتنمية القدرات العلمية للطلاب، وربما الطريق الأقل كلفة لتخريج أجيال متعاقبة من الباحثين، عوضاً عن انتظار المستقبل وما يحمله للطالب من فرص قد لا تكون متاحة. وفي المجمل، نحن في الوطن العربي نواجه تحدي تنمية القدرات البحثية لدى الشباب، والارتقاء بمهاراتهم، على نحو يُمكنهم من المساهمة الخلاقة في جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وإن النهوض بهذه المهمة ليس مسؤولية جامعة أو مؤسسة بذاتها، بل مسؤولية عامة، على الجميع العمل على إنجازها. وفي اليوم الذي تنجح دولنا في بناء مجتمع الباحثين، فإنها تكون قد خطت خطوة كبرى على طريق تقدمها وتطورها.