أقبل الليل.. سكنت الحركة.. ليس هناك غير أصوات أبواق بين الفينة والأخرى وبعض مواء القطط تبحث عما يسد رمقها..في تلك المدينة.. في تلك الأزقة.. كان يتربع منزل صغير.. ترفرف على زواياه معاني السعادة.. بعض منغصات تنتاب ساكنيه بين الفينة والأخرى ولكنها سنة الحياة.. فقد قال تعالى (إنا خلقنا الإنسان في كبد). في ذلك اليوم الكئيب الحزين كانت نورة قد أتمت أعمالها المنزلية وجلست للراحة قليلاً فسمعت طرقاً على الباب.. كانت والدة زوجها.. أدخلتها مرحبة.. ماهي إلا ثوان وتبعه طرق آخر.. إنه لوالدتها.. سعدت نورة أيما سعادة بهذه الزيارة وهي لاتعلم أنها الحد الفاصل ليحياتها وبقائها بمنزلها!!! لقد كان بين الوالدتين نقاش سابق تطور حتى وصل للتشابك بالأيدي فصعقت نورة وهي تخرج من المطبخ ومعها القهوة... لم تستطع فك الخصام إلا عندما حضر زوجها محاولاً تهدئة الأمور إلا أن الاشتباك قد رجع من جديد وأشد ضراوة... وبدأ كيل الشتائم وصدمت هي عندما سمعت زوجها يرد على والدتها التي أقسمت ألا تجلس ابنتها في منزله بعد اليوم!!!. كان هناك نظرة انتصار قرأتها نورة على قسمات والدته التي تربعت بفخر وهي تلمز والدتها باستهزاء وذيلتها بكلمة هزت كيان المنزل عندما ألمحت بأن ابنها مرغوب لدى الجميع وأنه من سواعد الحظ أن قبل بابنتكم للزواج منها. ماج المنزل ونورة تطلب من زوجها رد اعتبارها ووالدتها التي لزمت الصمت وقسماتها تطفح غضباً، إلا أنه لم يعر كلامها أدنى اهتمام. احتقنت العيون والقلوب حتى صار الابتعاد الوسيلة الوحيدة لرد الاعتبار، أقسمت والدتها أن تزوجها من يستحقها.. ولكنها سمعت أصواتاً لمجموعة أوراق في حياتها السعيدة معه.. إنه إنسان متزن ويحبها، ودائماً ما كان يقول لها إنها النبراس الذي يسير خلفه دون خوف. ولكن في تلك اللحظة المغموسة بالشيطان والانحيازية.. نسى نفسه وصار كمن يهذي بكلمات دون وعي. تتالت الأيام تبعتها شهور وهو لم يقدم خطوة واحدة.. وهو يحترق.. وهو تأخذه العزة. تم الانفصال.. تم المحضور.. وهو مرغم.. وهو يتعذب..بعد سنوات بسيطة.. تزوجت هي.. رحلت مع رجل آخر.. كان منزله يغص بالخدم وكل ما تتمناه... شعرت بالراحة وفخر الانتصار.. إلا أنها نسيت شيئاً مهماً..؟ بدا لها رويدا.. رويدا.. كانت سيارتها الفارهة تشق الطريق.. لكنها لوحدها.. دون مشاركة منه.. ففي المقعد الأمامي السائق الآسيوي وزوجته.. وقد لبسا بأناقة.. وهي بالخلف كسيدة سعيدة من الخارج.. ولكن أعماقها تموج بالحزن.. فها هو الطريق وكأنه هو الذي يسير بجانب سيارتها.. لاح بجانبها مبنى فخم لمطعم راق، كانت تتناول الغداء به مع زوجها السابق.. وها هي القهوة.. المكافأة.. التي اتفقا معاً على الجلوس بها وتجديد نشاطهما بعدما ينام الصغار ويعود من عمله.. هاهي قطرات المطر المتساقطة تهطل على قلبها الباكي تسكن بجوانب الجفاف مع حياتها الجديدة.. أين هو الآن..؟؟؟ إنه في إحدى الدول البعيدة يطارد الصفقات، إنه إنسان آلي.. إنسان ألغي في كيانه شيء يقال له إحساس أو تبادل مشاعر.. لا يهمه غير المال.. هي مجرد شكل أسكنه في منزله الفخم أمام المجتمع.. تذكرت أطفالها الصغار التي أصرت والدته على أخذهم.. تذكرت منزلها الراقي بمجهودها الشخصي.. شتان بين هذا وذاك..!!!؟ طلبت من السائق إرجاعها للمنزل.. وعند دخولها غرفتها كان رنين الهاتف لا يتوقف.. رفعت السماعة.. صدمها أسوأ خبر في حياتها.. إنه زوجها السابق.. لقد توفي. كانت والدتها تقول لها ذلك ولم تعلم أنها تتعذب.. تنتحب.. تتمنى اللحاق به دون تأخير.. لم تعلم والدتها ما فعلت.. ولم تعلم والدته أنها هدمت حياة.. وشتت أسرة صغيرة كانت تتأمل العيش بسلام... أما هي فقد أصيبت بهزل.. بحزن كان يفترس كبدها يوماً بعد يوم حتى تحول إلى أورام شديدة لا يمكن بها مواصلة الحياة... كانت في لحظات الحمى والمرض تفيق من غيبوبتها السرمدية وهي تتخيل أن من أمامها قسماته هو وليس الممرضة فتحاول نطق اسمه والاعتذار.. ولكنها تدخل بغيبوبة من جديد، حتى تناهى إلى أسماع الجميع رحيلها وهي مبتسمة كأنها رأته ينتظرها هناك حيث لا مشاحنات أو أوجاع تفرض على حياتهم نكد العيش...