شركة ارامكو ليست مجرد شركة نفط. تختص بتصدير وانتاج البترول. بل امتد تأثيرها لتغير انماطاً اجتماعية واقتصادية في المجتمع. هذا الاثر الذي احدثته امتد الى الابداع بشكل عام. سواء من خلال الموظفين العاملين داخل الشركة او من خارجها. وظهرت ملامح العوالم التي خلفتها بيئة ارامكو في مختلف الاجناس الابداعية سواء على مستوى القصيدة، الرواية، القصة القصيرة، وكذلك الفن التشكيلي. ولا ننسى حضوره على مستوى القصيدة الشعبية. حيث كتبت الكثير من القصائد التي تحكي ردة فعل الانسان البسيط تجاه بعض المتغيرات التي احدثها وجود شركة بحجم ارامكو في المنطقة. وان كان حضور الابداع في مختلف الاجناس الابداعية لا يتناسب مع العمق الاجتماعي والاقتصادي لحضور ارامكو في المنطقة. وفي هذا الملف ل«الرياض» نرصد العديد من الرؤى لمبدعين سعوديين يعملون في شركة ارمكو. يعبرون عن رؤيتهم تجاه تأثير شركة ارامكو على منجزهم الابداعي. الشاعر محمد الدميني: يرى الشاعر محمد الدميني والذي يعمل موظفاً في شركة ارامكو ان بيئات العمل التي لا ترتبط بمجال الكتابة لها شيء من الايجابية في عملية ضبط الوقت والالتزام بمهام العمل. ويرى ان بيئة عمل كالتي توجد في شركة ارامكو والتي تضم موظفين من جنسيات مختلفة انها تكسب المبدع مفردات جديد تنعكس على نصه الابداعي. وهنا نرصد رؤية الشاعر الدميني في رؤيته لزاوية اخرى من هذا المحور: ٭ من خلال عملك في ارامكو هل صادفت موظفين من الجنسيات الأخرى لديهم ابداع؟ - هناك بعض الصحفيين الذين عملوا في بعض الصحف الامريكية وغالباً ما تكون تلك الصحف صحفاً محلية او مناطقية. وليست الصحف الامريكية المشهورة عالمياً. ولديهم قدرات جيدة وخصوصاً على مستوى كتابة المقال او الاستطلاعات الصحفية. ومن الندرة اني وجدت شاعراً او قاصاً او شاعرة او قاصة ولكن هناك فنانات تشكيليات والبعض منهن يملك اعمالاً جيدة. حيث عرضت لهن اعمال في امريكا واوروبا ولهن وجود وصدى ولكن ليس على مستوى الاسماء الفاعلة او الناضجة في الثقافة الامريكية. ٭ هناك الكثير من العاملين في ارامكو ممن كتبوا عن المملكة بعد عودتهم الى بلادهم كيف ترصد تلك الكتابات وكيف تجد؟ - اغلب الكتابات التي تكتب من قبل الذين عملوا في شركات سعودية اما ان يكتبوا بتطرف مديحي في الوضع المعيشي الذي عاشوه واحياناً يبالغون في هذه الايجابية. وهناك الجهة الثانية التي تكتب بنقد شديد للحياة ولطبيعة تكون المجتمع وعن القيود وممارساتهم اليومية. وهؤلاء يكتبون بتطرف وهم غالباً ممن يعيشون فترات قصيرة والذين لا يحتملون ايقاع الحياة او الضوابط الاجتماعية والدينية في مجتمعنا. فيكتبون مقالات شديدة اللهجة وقد تكون في بعض كتاباتهم شيئاً من الصحة ولكنها تغلف بطابع عنصري او طابع شديد الحساسية. ويدخل فيها جانب الصراع الحضاري.. فهم يكتبون من نظرة استعلائية فينعكس هذا في كتاباتهم. وللاسف القليل من كتب بشكل واقعي ومنطقي وقدم الصورة الاجتماعية كما هي بسلبياتها وايجابياتها. وان يقدم هوية المجتمع وطبيعة الحياة هنا. والتي قد يكون فيها مسائل ايجابية وقد يكون بها مسائل سلبية. ولكن تقرأ قراءة موضوعية وتربط بسياقاتها الاجتماعية بالمستوى الحضاري الذي وصلنا اليه. ونحن نحتاج الى الكتابة التي بها نوع من الحنو ونوع من الايقاع الانساني. والتعامل مع شروط الحياة الانسانية الموجودة في المملكة. وان يكتب كناقد فقط هذا يفقد المصداقية. نحن بحاجة الى نقل تفاصيل الحياة عاداتها ومفاهيمها واساليب عيشها. وان تنقل للقارئ كما نقلت الكثير من البيئات كبيئات الشرق آسيوية والتي نقلت بشكل جميل للغرب. رغم انها بيئات تتمتع بتقاليدها العريقة وبخصوصيتها الشديدة ولكنها نقلت بدون اطار عدواني بدون اطار اتهامي لهذه الثقافة او هذه الحضارة. نحن بحاجة الى هذا النوع من الكتابة التي تقرأ المحيط الاجتماعي ضمن قوانينه الحياتية والاجتماعية والدينية والسياسية. والا يلجأ الكاتب الى اخذ مقاييس غربية متشددة ويضعها على واقع حياتنا الاجتماعية. ٭ وكيف تفسر التباين لدى الكاتب الغربي بين الايجابية في الكتابة عن الثقافة الشرق آسيوية والسلبية التي تم فيها نقل ثقافتنا الى الآخر؟ - تفسيري للتباين ان هناك فهماً مغلوطاً ورؤية سلبية تجاه منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والمملكة على وجه الخصوص. حيث يوجد عند بعض الكتاب الغربيين نوع من العدوان المبطن. وطبعاً عندما تكون هذه العدوانية لها جذور دينية وقد يكون لها جذور حضارية وقد تكون جزءاً من الصراع الشرق والغرب. وقد تأتي هذه المواقف ضمن حالة نفور من المجتمع وآلياته وتقاليده. وشعور بأن هذا المجتمع متخلف ويعيش ردة اجتماعية. لذا يتكون في داخل الكاتب الغربي مشاعر عدوانية محددة. وحين يكتب تظهر هذه الروح ويصبح غير حيادي ويصبح في جهة العدو واكثر من ان يكون في جهة الحياد مثلما يحدث اثناء كتابته عن ثقافات اخرى من العالم. زملاؤك من الاجانب في العمل كيف ترى تعايشهم مع الحياة الاجتماعية خارج بيئة العمل؟ من خلال علاقتي بهم وعملي في اوساطهم اشعر وبشكل عام انهم يحترمون القيم والعادات. فمثلاً وعلى مستوى الحجاب نجدهم يفرضون على زوجاتهم لبس الحجاب داخل الاسواق والاماكن العامة حتى لا يجرحون علاقاتهم بالمواطنين. وبعض منهم يدرس اللغة ويدخل فصول دراسية لتعلم اللغة وارامكو لديها برنامج لتعليم اللغة. والبعض يتوسع في اللغة الى درجة الاتقان. والبعض يكون سعيداً بالتعرف على طبيعة الحياة. فمثلاً النساء كيف يعشن ازياءهن. الفلكور الشعبي. هناك شغف كبير لدى الكثير بالتعرف على تفاصيل الحياة في هذا المجتمع ويأتي هذا الشغف ضمن اطار الثقافة الغربية المنفتحة على الآخر. القاص عيد الناصر: يقول القاص عيد الناصر الذي ولد في مستشفى ارامكو: ترعرعت في بيت بني بقرض (لوالدي) من ارامكو، وابتعثت للدراسة من قبل ارامكو وتخرجت ومازلت اعمل في ارامكو. لدي عدة قصص قصيرة تلامس الواقع الاجتماعي خلال المجتمع الارامكوني اذا صح التعبير. وفي هذا الحوار نتعرف على رؤية على القاص عيد الناصر: ٭ كيف ترى حضور بيئة ارامكو في الابداع المحلي على مختلف ملامحه في الرواية او الشعر او حتى الفنون التشكيلية.. وهل صحيح بأن اثر ارامكو لم يرصد ابداعياً بعد؟ - ارامكو تأثيرها كبير جداً، ومتغلغل في كل خلايا المجتمع، هذه حقيقة تاريخية عمرها اكثر من سبعين سنة، وحقيقة اجتماعية لا يمكن تجاوزها. وأنا أتفق معك بأن رصد الدور الذي لعبته وتلعبه ارامكو في الانتاج الابداعي لم يكن في المستوى المتوقع. وهذا سؤال يجيب عليه واقع الحال الذي يعني بأن ملامسة ارامكو نقدياً ليست بالشيء المحمود عواقبه. ولكن نستطيع ان نقول بأن الروائي الراحل عبدالرحمن منيف لامس جوانب حساسة ومهمة في ما يخص الدور الذي لعبته رجالات هذه الشركة في بداياتها، والتغيرات التي اصابت الانسان والمكان. وكذلك لامسها بشكل خفيف الدكتور تركي الحمد، والاستاذ علي الدميني في غيمته الرصاصية، وهناك اشارات الى الجوانب الاجتماعية في اعمال بعض الكتاب الذين يعملون في ارامكو مثل بوقري والتعزي (على ما اعتقد). وربما مثل هذا الموضوع بحاجة الى ابحاث مضنية والعودة الى الوراء لبضعة عقود من العمر لترصد تفاعلات الحركة العمالية في ارامكو وكان هناك من عبر عن آراءه ومعاناته شعراً ونثراً. ولكن هل بالامكان فتح مثل هذه الملفات؟ الشيء الملفت بأن الموظفين الأمريكان، سواء من الجيل الأول أو الذي تلاهم كتبوا عن تجاربهم وحياتهم في المملكة اكثر مما كتب ابناء البلد انفسهم عن هذا الموضوع. ٭ كقاص هل حضر بيئة ارامكو في انتاجك القصصي..؟ - كعينة فقط، انا ولدت في مستشفى ارامكو، وترعرعت في بيت بني بقرض (لوالدي) من ارامكو، وابتعثت للدراسة من قبل ارامكو وتخرجت ومازلت اعمل في ارامكو. وهناك الآلاف ممن هم على شاكلتي، واذا لم تتأثر حياتي وحياة اسرتي بهذا المشوار، واذا لم يكن هناك في حياتي الاجتماعية او اهتماماتي الفنية فهذا امر اجزم بأنه مناف لكل قوانين التاريخ والاجتماع البشري. فالانسان لا يولد من فراغ، ولكن يبقى الحديث عن أرامكو فيه الكثير من الحساسية على المستويات السياسية والاجتماعية، والكثير الكثير من الناس لديهم قصص وتجارب (ماضياً وحاضراً) ولكنهم يتحاشون تدوينها للحساسية التي اشرت اليها. فمفهوم الوطن والوطنية يصبح في مرحلة معينة ملتبساً على البعض، ملتبساً حد الاغتراب. واجابة على سؤالك اقول بكل تأكيد كان لواقع ارامكو تأثير كبير، الواقع اليوم هو من اهم المصادر للكاتب. لدي عدة قصص قصيرة تلامس الواقع الاجتماعي خلال المجتمع الارامكوني اذا صح التعبير، واحدة من هذه القصص بعنوان (زميلتي) وكانت تسلط الضوء على شاب تخرج للتو من الثانوية والتحق بالعمل في ارامكو حيث تعمل النساء مع الرجال في مكان واحد. هذا الشاب يحمل صورة نمطية للمرأة ولذلك كان يفسر أية كلمة من الفتاة التي تعمل معه في المكتب (وهي سعودية) بأنها نوعاً من المغازلة... ويستمر النص في رصد الحالة الداخلية لهذه الشخصية وصولاً الى اللحظة التي يكتشف فيها هذا الشاب بأن زميلته في العمل ليس اقل شرفاً واخلاقاً من اهله...الخ. وهناك تجربة اخرى (اتحدث عنها لأول مرة) فمنذ عدة سنوات وانا اعمل على رواية تسرد تجربة احد العمال في ارامكو. هذه الرواية قد تذهب الى المطبعة في السنة القادمة (ان شاء الله). ٭ كيف تجد وترصد اثر ارامكو على المحيط القريب وأقصد بذلك المنطقة الشرقية؟ - أرامكو داخل الشبك وأرامكو خارج الشبك. داخل الشبك هي سينماء ومسرح وتلفزيون ومكتبات، هذه كانت ارامكو في مرحلة لم يكن عدد من يعرفون القراءة والكتابة يتعدون العشرات. وخارج الشبك هي امتداد حذر الى تلك القاعدة الثقافة التي بدأت بلقمة عيش المواطن وصولاً الى توفير حاجاته الضرورية. الأمر المحير من الناحية التاريخية هو لماذا تقزمت منابر الفكر الجماهيري مثل المسرح والسينماء الى حدود مساحات الارض التي بنيت عليها داخل الشبك، في حين بقي مجتمعنا الى هذه اللحظة، ونحن في القرن الواحد والعشرين، لا يجد مسرحاً ولا يجود بدار للسينما. ارامكو كانت ومازالت لها تأثير عميق جداً على المجتمع في المنطقة الشرقية على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. على المستوى الاجتماعي فان موظف ارامكو في مرحلة من المراحل كان يعتبر «كلاس» متميز (على الاقل هكذا ينظر اليه البعض)، صحيح ان الزمن تغير الآن وان كانت بعض تلك الصورة ما زالت حاضراً بوجه او بآخر. أرامكو بدأت في توفير القروض لموظفيها، وتوفير القروض كان يعني التدخل في الشكل المعماري للبناية المحلية (وهذه بحالها تعتبر مسألة مهمة). ارامكو اطلقت محطة تلفزيونية في المنطقة (لا أستبعد ان تكون الأولى في دول الخليج) وكان الناس يلتقطون برنامج محطة الظهران والذي كان يقدم الافلام العربية والاجنبية (الامريكية المدبلجة)، وكانت هناك برامج ثقافية تعنى بأمر الكتاب والثقافة. وخطورة واهمية الاعلام التلفزيوني ليست بحاجة إلى شرح وتحليل. وكان تأثير الثقافة الارامكونية واضحاً في كل مكان، وكان المجتمع اكثر بساطة وتقبلاً للتغيرات، ولكن بعد الموجات الصاخبة من الشرق بدأت تلك البساطة والتلقائية الاجتماعية تدخل في معمعة النقيض المرفوض. عواض العصيمي الذين يعملون في منشآت صناعية بأرامكو، يدركون فداحة اللحظة التي تتوقف اثناءها المولدات الكهربائية عن العمل، حيث تندلع في كل مكان حالة استنفار قصوى من أجل إعادة كل شيء إلى وضعه الطبيعي. لحظات الهدوء التي تعقب انطفاء المولدات، تسجل باعتبارها لحظات هدم بغيضة، ويخصص لها مكان في سجل الاحداث غير السعيدة في تاريخ المنشأة، وذلك لأنها هوت بإيقاع العمل من نغمة ال(running) إلى نغمة ال(shutdown). بمعنى انها اقتصادياً هدمت المنشأة وأوصلت الإنتاج المتوقع منها الى قيمة الصفر في حساب الأرقام الإنتاجية. من هذا التصور الواقعي، نستطيع ان نضع مقارنة موضوعية بين تلك اللحظات، ولحظات الهدوء عموماً وما تعنيه من اهمية عند معظم كتاب الأدب والفن. عند الكتاب، تتميز اوقات الهدوء باستحضار الذات، وإيقاد حساسية الإيجاد الفني، ومزج العناصر والأبعاد من اجل تشكيل صورة فنية بديعة. اما لحظات الهدوء عند المنشأة فتعني فقدان الذات، وانقطاع الزمن، وتعني الخسارة مادياً وإرباك جدول الناتج اليومي. وبناء على ما سبق، يصبح ممكناً فهم بعض جوانب العلاقة المتوترة بين الموظف الموهوب في حقل الأدب والفن، وبين أرامكو كشركة مجالها انتاج النفط وتسويقه وعلى افتراض ان لحظات الهدم التي ينفر منها منطق الانتاج، صادفت وجود كاتب على رأس العمل يتشوق طيلة حياته إلى لحظات البناء، فأي الجانبين يتألم لأنه يعلم ان الفرصة ستفوته من دون ان يستثمرها في البناء، وأيهما يتألم لأنه يعيش لحظات الهدم بكافة ابعادها ويتمنى لو يتخلص منها بأسرع وقت؟ الشعور الأول يمر به الكاتب لا ريب، وهو شعور يكاد لا يفارقه طوال وجوده في العمل. وإذا ما نظرنا إلى ذلك الجزء الضئيل من الزمن باعتباره علامة فارقة خيارات الذات الإنسانية المتميزة بملكاتها الفنية الخلاقة، وبين ما يراه الفكر الإنتاجي الصناعي واجباً، فإننا عندها سنفكر في مناح اخرى لهذه العلاقة. سنفكر في وضعية الكاتب كفرد عادي، أو لنقل كموظف عادي يؤدي عمله وفقاً لمبادئ ال(general instruction) المعمول بها في المنشأة. وعند هذا الحد، تنتفي خصوصية الفنان، ويصبح النظر إلى الموهبة الأدبية مهما كانت متميزة مساوياً للنظر إلى أي شيء نافل وغير مهم. وهنا تكمن قوة المنطق الصناعي في تغييب كل ما لا يخدم الهدف الأساسي، والتركيز فقط على الجزء المطلوب من طاقة الفرد، وأقصد بهذه الإشارة ان الموهوب كتابياً سيواجه امام جهاز الكمبيوتر بلوحة مفاتيح ذات طبيعة خاصة ومختلفة عن لوحة المفاتيح التي يألفها. لوحة مفاتيح تهمها الارقام، وتتقن تحفيز الحاسوب على التفكير بيانياً، ووضع الإحصائيات والجداول المتعلقة بالعمل، في حين تختفي الأحرف العربية الثمانية والعشرون، وتختفي معها موهبة الكاتب وقدراته الأدبية الخلاقة، ويظهر عوضاً عنها الجزء المطلوب منه فحسب، وهو ذلك الجزء المهني في سجل النشاط اليومي يفتح الطاقم يومه بهذه العبارة التي يحرص على كتابتها هكذا (we have checked the unit,and found everything in normal condition) والمعني بهذا التقرير هو الحالة المهنية المطبقة حسب بنود العمل المتبعة، فكل شيء من هذا المنظور هو كما تقول العبارة السابقة طبيعي ويعيش وضعه كالمعتاد. وإدراك هذه الطمأنينة لأن الوضع طبيعي، لا يشمل بالطبع وضع الكاتب المضطرب بطبعه، والمتوتر كعادته، حيث يمور في داخله عالمه الخاص، وهو إذ يباشر عمله يود لو تتهيأ له لحظات هدوء يسمح له فيها ببناء عالمه الداخلي في ورقة. لكن العمل هو العمل، وهذا ما يفهمه الموظف أثناء الدوام في أي مكان في العالم، ولا يستطيع أي كاتب موهوب في مجال خارج مجال عمله أن يكيف أنظمة العمل وظروفه لشروطه الخاصة بممارسة فنه. كما ان برامج التطوير التي عادة ما تضعها أية شركة تجارية أو صناعية لموظفيها لا تحتوي إلا ما يوافق إستراتيجية الشركة في إعلاء مهارات موظفيها تجاه الحقول المتخصصة فيها. وفي أرامكو تحديداً، وضعت في كل وحدة صناعية غرفة صغيرة مجهزة بحواسيب آلية موصولة بخطوط هاتفية سميت غرفة التعلم الذاتي (self learning room) ودورها يتركز على فتح نافذة اكبر للموظف ليطلع على المعلومات والأنشطة والأفكار التي تنمي لديه حساسية بشكل أفضل. غير أن هذه النافذة لا تفتح على كل الاتجاهات بما فيها الاتجاهات التي يبحث عنها الكاتب، بل تفتح نحو أفق صناعي تقني بحت. ومرة اخرى يجد الكاتب نفسه محاصراً بمنطق ويبي (من website) يخلعه بقوة من خصوصية الفنان بداخله ويلج به طرقاً بعيدة وضاجة بقوانين وشروط مفارقة لقوانينه وشروطه. ومن خلال تجربتي مع الكتابة ابان عملي في شركة أرامكو لم أجد مسؤولاً واحداً من مسؤولين كثر مروا عليّ، اكترث لما اكتب، بل لم أسمع منهم إشارة إلى ان ما أقوم به في مجال الأدب والإبداع لهو من الأعمال التي ينبغي ان تعطى تقديراً يليق بها في مجالها. اعذرهم بالطبع، إذ لم يكن مطلوباً منهم ان ينظروا خارج الوجهة التي رسمت لهم، وما أريد الإشارة إليه هنا هو ان الكاتب الموهوب في أرامكو وفي غيرها من الشركات الصناعية، والمؤسسات التجارية، وأكاد أقول في شتى مناحي الحياة يعيش مأزق التكيف مع الأوضاع العادية، باعتباره كائناً يتمتع بخميرة تمرد وخروج على المألوف في تفكيره، وعندما يكتب. ٭ الشاعر جاسم الصحيح.. في البداية، بوصفي مهندساً ميكانيكياً في (شركة أرامكو) فإني لا أشك أبداً في وجود علاقة خاصة بين مهنتي وقصيدتي، فالأولى (المهنة) هندسة للمكائن والأنابيب والمعادن وغيرها، بينما الأخرى (القصيدة) هندسة للذات بواسطة الكلمات. لذلك، يمكنني ان أزعم ان آصرة خفية على مستوى التصميم (Design) قد تكون تربط بين الاثنتين بطريقة لا أشعر بها كثيراً في منطقة الوعي ولكنها موجودة بلا ريب في أعماق اللاوعي! في البداية، أشعر بأن الهندسة موقف من الحياة.. شأنها في ذلك شأن الشعر.. لذلك، فهي تعكس رؤية المهندس كما تعكس القصيدة رؤية الشاعر إذ تتحدان أو تتشابهان في الجزء الفني الذي تحملانه في تصاميمهما. إضافة إلى ان كلتيهما لا تنظران إلى الأشياء نظرة موضوعية، وإنما نظرة ذات جانب (رؤيوي) يعكس تورطهما في الحياة تورطاً جميلاً وذلك عبر اكتشاف جديد لمضامين تلك الأشياء! أحياناً يخيل إليّ ان استراتيجية العمل على أي نص إبداعي أشبه ما تكون باستراتيجية العمل على مسألة هندسية من حيث الاستعداد النفسي والذهني والشعوري وتكون معالجة الموضوع قائمة على مهارة المهندس الشاعر في السيطرة على لغته سواء هندسية كانت أم شعرية.. هذا إضافة إلى سيطرته على أدواته الفنية في مجال الهندسة - الشعر. ربما تكون لغة الهندسة من فرط صرامتها مقارنة باللغة القزحية للقصيدة لعمق انتمائها لطيف الكلمات بدلاً من الكلمات ذاتها.. إلاّ ان التعامل الكثيف مع المفردات في اللغتين قد يرفع جسراً غير مرئي من المشاعر يسمح لبعض المفردات بالعبور من لغة إلى أخرى بطريقة لا شعورية.. فتراني أصحو على أبيات مثل: أنا جاهل في ابتكار الخنوع خبير بهندسة الكبرياء وليس جبيني سوى ملصق أبي يجسد شكل الاباء أو مثل: هذا معدني متصدع بالخوف يبحث في القصائد عن مجازات تشد بها العظام مغلولة بالهم روحي كلما أوغلت في المجهول أكثر زادني علماً بأني الخاسر الأزلي فاستقصيت تكويني أعدد ما خسرت من العناصر!! وهناك الكثير من النماذج التي تشي بقدرة بعض المفردات مثل (المعدن المتصدع) و(خسران العناصر) على التسلل من لغة العمل إلى لغة الشعر حيث تتلبس روحاً شاعرية تجعلها لدنة قابلة للتمدد على امتداد مساحة التأويل بعد ان كانت جامدة جمود المعادلات الهندسية في قالب الصرامة. بقي ان اتحدث عن موقع العمل وتأثيره على الشعر خصوصاً وأنني أعمل في (منطقة نائية) بعيدة عن منزلي وهي صحراء قاحلة تقع بين الهفوف ويبرين وتسمى (حرضاً).. وقد تغيرت جغرافيتها عندما سكنها ذلك المارد الحديدي العملاق المسمى (معمل الغاز في حرض) حيث أعمل! عندما أغادر النخيل في الأحساء وأجد الطريق خالياً من رفيف السعفات كل صباح سبت، أشعر بالغربة تسكنني.. هذا هو الشعور الذي خامرني عندما كتبت ذات غربة على طريق حرض: كالأبجدية بعد حرف (الياء) متشرد أنا خارج (الأحساء) متشرد حتى اشتباه هويتي متشرد حتى التباس دمائي وإذا تجاوزت النخيل أخالني جاوزت في قدري حدود قضائي! ٭ عبدالله التعزي.. في البداية لابد من معرفة حقيقة الا وهي ان معظم الكتاب في السعودية هم كتاب تفرغ جزئي. وربما ان الوقت الذي يجدونه للكتابة هو وقت مسروق ويدخلهم هذا الشعور دائماً بأنهم آباء غير صالحين وأفراد في المجتمع منعزلون. ولكن أين يكون الوقت إذا كان الكاتب في الفترة الصباحية في العمل وفي العصر يكون منهك ولكن طلبات البيت والالتزامات الاجتماعية لا ترحم إلى فترة ما بعد الساعة التاسعة مساء يعود بعدها إلى البيت ولديه القوة الداخلية للكتابة والقراءة تدفعه وتشعره بالذنب لأنه أهملها، إذا وجد ساعة فيعتبر هذا اليوم من الأيام المنتجة والمباركة. وتسوء الحال في حالة العمل في أرامكو. فأحياناً العمل في أرامكو لا يعطي الوقت الكافي للكتابة ولكنني سعيد بأن هذا أحياناً فقط. المشكلة ليست في إيجاد الوقت فقط. المشكلة الحقيقة تكمن في التعايش مع المكان. ربما تكون هذه المشكلة شخصية وربما لا يشعر بها أحد ولكنها تفرض نفسها وتجعل من المستحيل تجاهلها فالانتقال بين المدن والانتقال بين أنواع المكاتب والانتقال بين أنواع الأعمال والانتقال بين أنواع الضغوط التي تمارس على الموظف كل هذه وأشياء أخرى صغيرة مثل نسيان كتاب أو عدم وجود مرجع معين إلخ جميعها تجعل من المشكلة أشبه بمرحلة من مراحل الحياة المعاشة وأنها يجب ان تتجاوز ليستمر المسير. التعايش مع الكتابة عادة ما يكون منطلقاً من ألفة المكان والتي تكونت مع الوقت وتراكمات زمن القراءة. فتفاصيل الجدار والصور المعلقة عليه وذلك المسمار المائل الوحيد في الجهة المقابلة ثم الركن الذي تحول إلى زاوية تقشر طلاؤها من الرطوبة والحرارة المتعاقبة بلا رحمة حتى تصل إلى السقف الذي أصفر بياضه وأصبح متماهياً مع لون غطاء المصباح المشنوق في السقف. كل هذه المشاهد مفقودة ولا تجد حتى الأصوات التي قد تسمعها من حين لآخر. لا توجد أشياء حولك باستطاعتها ان تحرض داخلك على الكتابة لتستطيع ان تتدفق الكلمات وتنهمر، كل الذي حولك جديد ومخاتل ومتغير وكأنك تقف على حافة الكلمات وطرف الهاوية بالمرصاد. والكتاب من الموظفين الآخرين من الجنسيات المختلفة مثل الأمريكان والبريطانيين والأوروبيين بصفة عامة لا يختلفون كثيراً في معاناتهم الكتابية بل ربما حالهم أسوأ حيث أنهم قد يفتقدون لبلادهم وما تمثله لهم من حنين. والتواصل معهم رغم أنه ممتع وله تشعبات جميلة ويدفع إلى النظر إلى المجتمع المحلي من زاوية جديدة إلاّ أنه غالباً ما ينتهي بالحنين والرغبة بتحويل ما يعاش في الشركة إلى عمل من الممكن ان يكون محايداً بعض الشيء ومتطرفاً باتجاه الحقيقة.