وقفت أمام مرآتي ذات يوم فقالت لي المرآة:لقد بدأت التجاعيد تحفر أخاديدها في تضاريس وجهك.. بدأ برد الشيب ينهمر فوق ذروة رأسك.. وبدأت أعضائك تترهل شيئاً فشيئاً وتتحسر على فراق الجسد البض. قالت لي المرآة: لقد تغيرت نظرة عينيك.. أين بريق التحدي؟ رحل وحلت مكانه نظرات الفتور والملل. سنوات عمرك تتسرب كالماء من بين أصابعك وها أنت تقتربين من نهاية الطريق.. ماذا ينتظرك سوى الوحدة والكآبة والسكون؟ ثلاث وأربعون سنة مضت، لم تلبسي ثوب الزفاف الأبيض الموشى باللآلىء والورود ولم تضعي على رأسك ذلك التاج المرصع بالجواهر ولم تمشي في ذلك الممر الطويل المكسو بسجادة حمراء مخملية.. بين حشود ا لمدعوات كملكة خرجت من كتب الأساطير.. لم تزفك النساء على وقع الدفوف والأهازيج. وأنت محاطة بسحب دخان العود العطرة المتصاعدة من المرجل لم يحتويك زوج حبيب.. لم يشاركك غرفتك وأنفاسك ودموعك وضحكاتك.. لم تحسي بلذة الأمن والسكينة حين تضعين رأسك على صدره. قالت لي المرآة: انظري إلى بطنك.. صحراء قاحلة أو قبر موحش.. لم يسكنه جنين يملأه بالحياة.. ثم يخرج منه إلى الدنيا. قالت لي المرآة مسكينة أنت. ابتعدت عن مرآتي جلست على حافة سريري أمام مكتبي الذي تتكدس فوقه كتب كثيرة وأوراق وبحوث نظرت إلى الجدار المغطى بالكثير من شهادات التقدير والشهادات العلمية. تأملت مليا هذه الأشياء. قلت للمرآة: أجل أنا الآنسة فاطمة التي بدأت قوافل الشباب ترحل تباعاً عن مدني ولم أتزوج وأنجب أطفالاً ولكنني الطبيبة التي ولد على يدي هاتين مئات الأطفال، وأنا التي عالجت الكثير من النساء واحتسبت في مهنتي أن لا تضطر المرأة إلى أن تلجأ إلى طبيب يرى منها ما تحب أن تستره، وأنا التي لم أكتف بدراستي الجامعية بل أمضيت سنين طوال في البحث والدراسة حتى أصبحت من أكفأ الطبيبات، وأنا التي منَّ الله علي بالراتب الكبير الذي أستطيع به بر والدي وتحقيق كل ما تمنوه وتوفير كل ما حرموا منه.. وأنا التي أعانني الله فأنففت على إخوتي وأخواتي لكي يكملوا دراستهم، وأنا التي يسر الله لي حفظ القرآن وطلب العلم الشرعي فسخرت ذلك في مهنتي.. وأنا الأمة الفقيرة إلى الله التي وضع لي القبول عند الناس ورزقني حب والدي وأهلي ومرضاي وصديقاتي.. وأنا التي ألبسني الله تاج العافية.. وأنا الأمة الفقيرة إلى الله التي عوضني الله عن الزوج والذرية بنعم كثيرة لاتعد ولا تحصى، يكفيني أن رزقني حبه والإنابة إليه وحسن الظن به وأدعوه أن يثبتني على طاعته حتى آخر يوم من عمري.