إن المجتمعات العقيمة العازفة عن الإنتاج هي مجتمعات مبعثرة ومقطوعة عن بعضها البعض ومنطوية على نفسها في معازلها، ولأنها كذلك فهي نابذة للمختلف ومعادية للجديد، في غمرة الانشغال بالثراء الهابط، انصرف الخليجيون عن المسائل الجوهرية المتعلقة بتحديث الوعي واستنبات مفاهيم وصياغات ذهنية قابلة للتداول في فضاء الحياة المدنية الجديدة التي جرفت عالمهم الصحراوي القديم دون رجعة، فقد بدى الأمر مفتعلاً أومن عالم اسطوري، فالإنسان الذي أطبقت عليه المدن الحديثة بشوارعها النظيفة وأنوارها الباهرة أوقف صلاته وتماسه بالتمدين على عتبة الاستهلاك المستهتر لثماره ونسيها هناك، كان ثمة ذخيرة رائعة من النصوص الدينية الجليلة وتراث من التقاليد والمعاني الروحية يمكن لها أن تؤمن اجتيازاً آمناً لمجتمعاتنا عبر مخاضات الفعل والتفاعل مع المظاهر الحداثية الطافية، وصولاً إلى تجذيرها في التربة الإنسانية ونقلها من مرحلتها المظهرية إلى واقعة حضارية ينتجها الفعل الاجتماعي، إلا أن ذلك لم يكن انشغالات تلك المرحلة المشبوبة بالإنفاق الاستهلاكي واستعراضات الثراء. كان «توطين» الحضارة القادمة على أجنحة الحلم البترولي، يتوقف على استحضار اللحظات التاريخية التي ازدهرت في رحابها المدنية الإسلامية، استرجاع تلك المدنية الزاهية بروحها المتوثبة ومدنها المزدهرة، بغداد وقرطبة وطاشقند والبصرة والكوفة وكل المدن العربية والإسلامية التي ظلت مشرقة في سماء التاريخ، بفقهائها وعلمائها ومفكريها وزواياها الدراسية، التي لا زالت أصداء نقاشاتهم وخلافاتهم إحدى المحطات المضيئة في رحلة الإنسانية والعقل على طريق الترقي والإبداع وكان على وعي الحاضر أن يتمثل وعي الماضي بالقيم المؤسسة للنهوض الحضاري الذي لا يمكن بلوغه دون إعادة إنتاج معاني السلوك والممارسة المرتبطة بالاجتماع الإنساني على خلفية المعطيات المتغيرة في مسار التاريخ. كانت تداعيات الثراء النفطي عميقة ومؤثرة على بنية الوعي الاجتماعي، ولكن هذه التداعيات لم تأخذ وضعها الإشكالي وتبرز كتحديات صعبة ومترابطة في وجه المجتمعات الخليجية إلا في وقت متأخر، ففي وقت منحت فيه الموارد الجديدة حكومات المنطقة استقلالية غير مستعلية في الكثير من جوانبها ولكنها شبه مطلقة، فإن الحكومات طفقت في تمويل سياسات الرعاية الأبوية والإنفاق على أهداف ومشروعات متناثرة وغير خاضعة لإطار استراتيجي واضح المعالم، كما أنه عزز الحساسية الرسمية إزاء العلانية وأعاق الاتجاهات الوليدة للمشاركة في صناعة القرار ونمو المجتمع المدني ومن جهة أخرى فإن امتيازات الثروة وشرعية إدارتها التي تجمعت إلى جانب الشرعيات التقليدية الأخرى، في يد الدولة متضافرة مع العفوية الأبوية وأعراف السخاء المتوارثة، أغرقت الخليجيين بتطلعات الجزالة وسهولة الثراء، وأزاحت بقايا المهنية وقم الإنتاج إلى زوايا مهملة في الوعي والواقع، وعندما لم يعد النجاح وقفاً على الجدية والمثابرة، اكتمل انسلاخ المكافأة عن الكفاءة واندثرت أو كادت تقاليد العمل والجهد وسحبت معها نظام العلاقات الاجتماعية وسلوكيات التعامل وحسن المعاشرة إلى امتحان عسير، فأصبحت المدن المزهوة بشموخها وثرائها مكاناً للاغتراب والتناقض لإنسان هجر زرعه وأغنامه إلى المدينة، وصلها علِى بساط سحري ولكنه ضل طريقه إلى زمنها، إنها مدينة متمردة على زمنها وشاردة من عالم آخر، لأنها لم تنبت في تربة الوعي فمكثت مدينة بلا تمدين، فالمدن التي لا تنبعث نغماتها على إيقاع التسامح ولا تهمس تراتيل الحب توصد أبوابها في وجه الحضارة وتعاند النماء والترقي، تبقى دون نضارة لأن قلبها لا يخفق وإذا ما قيض لهذا القلب أن يظل خامداً «لا سمح الله» فإن وارثيها القادمين لن يتلقوا ضروعاً تُدر سمناً أو عسلاً. إن المجتمعات العقيمة العازفة عن الإنتاج هي مجتمعات مبعثرة ومقطوعة عن بعضها البعض ومنطوية على نفسها في معازلها، ولأنها كذلك فهي نابذة للمختلف ومعادية للجديد، وبذلك فإن المجتمعات الخليجية ذات الإنتاجية المتدنية تشكل ظاهرة فريدة أنجبتها الثروة المفاجئة والحكمة السياسية التي نجحت في صيانة استقرارها وأمنها الوطني، في بيئة جيوبولتكية متفجرة، ولكنها مع ذلك كانت تخضع لمؤثرات محيطها الإقليمي الإسلامي والعربي المترادفة مع تطورات إنسانية وعالمية، وكما كانت هذه المنطقة غير منتجة للسلع والخدمات فهي بالأحرى لم تكن منتجة للأفكار والتصورات ولم يكن في وسع طلائعها الوليدة إلا أن تتلقف المفاهيم والتصورات التي حظيت برعاية الدولة الثورية وروجتها مؤسساتها الإعلامية المتفردة وقتها. كانت الأطروحات الثورية تتمركز حول إحياء يوتوبيا حضارية متخيلة وتتماهى مع ذاتية مغلقة طاردة للخارج ومستعيدة لبنية الشعور الذي ساد نظام العلاقات الأقوامية لدى قبائل الصحراء، وقد أكسبت الثورية نفسها شرعية كاسحة للشرعيات الأخرى وانتزعت لوحدها حق النهوض بالطموح العربي في الوحدة والتقدم، وكما فشل الخطاب القوموي في التأسيس لفكر عروبي حديث يرتقي في إطار منهجي للعمل العربي المشترك، فقد تباهت بالتفاف جماهيري مدفوع بالعواطف ينقصه التنظيم والتلاحم، بل إنه كان ضارياً إزاء أفكار الديموقراطية والمؤسسة، ففشل في خلق قاعدة جماهيرية حول مرجعيات ومناهج تخضع للمراجعة الحرة تؤدي إلى تناغم قاعدتها الواعية مع قمتها المنتخبة، فجاء السجل الثوري العربي سجلاً للخيبات والهزائم على جبهات الحرب والاقتصاد والسياسة، نجمت عن الطيش والارتجالية المتهورة في رصد وقراءة الحقائق الموضوعية واتجاهات التاريخ، وإذا كان الحلم العربي قد انتهى إلى تجرع مرارة الهزيمة فلقد طوحت متتالية النكبات بالوعي العربي، وقذفت بإنسانه إلى عالم يستبد به القلق والإحساس بالعدمية والضياع، ولكن الثورية العربية رفضت مراجعة خطابها أو الكف عن التناول السلطوي والكبت القمعي فأهالت التراب على مشروع النهضة العربية وتركته دون شاهد. العرب كلهم تهشمت كرامتهم القومية واعتصرهم الألم ولكن الخليجيين كانوا الأكثر تفجعاً وضرراً، فقد نالت أطروحاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتسمة بالاستقرار والرصانة مصادقة شعبية متزايدة في ظروف مواتية تعززها الموارد، فتوارت مسائل جوهرية مثل الرصد والمراجعة والملاحقة على هوامش حيوية الاقتصاد الريعي المتدفق الذي ظنه الخليجيون خالداً وأبدياً، ولكن الوعي الاجتماعي مخترق هرم التراتبية من القمة إلى القاعدة كان يتفاعل في إطار ديناميكيته الذاتية أو بفعل مؤثرات وافدة، لم تنجح مظاهر الرفاه المجلوب أو الاستعارات الحداثية الفضفاضة في تذويبها أو استمالتها، في موازاة ذلك كانت قضية التنمية تنكشف على أخطاء وثغرات هيكيلية وقصور تخطيطي وسط تكاثر سكاني كثيف، فبعد أن فقدت المؤسسة الاجتماعية القديمة فاعليتها واهتزت أركانها التقليدية وتلاشت قدراتها أمام الزحف الحداثي المفتعل، وجرف التطور الصياغات القديمة لعلاقات الأفراد والجماعات، أصبح الوعي الاجتماعي منفتحاً على ممكنات لا نهائية، بينما كانت سيول من المشاكل والضغوط الداخلية والخارجية تستغرق الحكومات وتستنزف جهودها ومواردها التي أخذت بالضمور، كانت كل الظروف الموضوعية والعناصر تعمل على إعداد التربة الاجتماعية لاحتضان بذرة الميول التي تهدد سلامة المجتمع وتعيق مسيرة المدنية. الواقع أن هذه الميول والنزعات التي تنامت وهيمنت في حقول وميادين اجتماعية تشكل القواعد الأساس لبناء مجتمع متطور، لم تكتسب زخمها إلا على أرضية واحدة، هي انهيار هياكل المجتمع التقليدي على مستويات العلاقات ونظام الإنتاج والتبادل، وانزواء القيم التضامنية وروح التكافل الطوعي التي كفلت للمجتمع القديم بساطة حياته والتي لم تعد كافية لاستيعاب التطور، بيد أن هذا الاستنتاج قد يكون خادعاً ببداهته الظاهرة لأن إسقاطاته الشمولية تضع الجهد التطويري «التحديثي» برمته أمام ضرورة المراجعة المتعمقة التي لا تستثني أياً من أساسياته. كانت المنطقة تلهث وراء زمن متسارع، تلاحقه على كل الأصعدة والمستويات، وعلِى كل المحاور في الخارج والداخل كانت الأحداث المزلزلة تختبئ وتتفجر في وجهها وكأنها قادمة من العدم وسائرة إليه، ربما كان في ذلك عذر للغفلة والخطأ، وهو قرين الفعل البشري لا ينفك عنه ولا يحيد، غير أن تراكم «الكم» قد يزيح «الكيف» عن حيّزه ويفنيه لأجل شيء آخر، وجيلنا بكل تأكيد راغب عن حمل وزر ذلك. للموضوع بقية..