كان الأميركيون ينتظرون القتيل رقم 2000 في صفوف الجيش الأميركي في العراق ليبدأوا تحركاً في سائر أنحاء الولاياتالمتحدة ضد الحرب على العراق وضد سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش. والسيدة سيندي شيهان والدة المجند الفني كيسي شيهان الذي كان رقمه في عداد القتلى 615، والتي قامت بسلسلة من التحركات المناهضة للحرب وقادت تظاهرات واعتقلتها الشرطة الأميركية، أعلنت مؤخراً أنها عندما يصل العدد إلى 2000 سوف تتظاهر أمام البيت الأبيض وتربط نفسها بسوره وهي متأكدة من أنها ستعتقل ثم يطلق سراحها، لتعود إلى القيام بالشيء ذاته. هيئات وجمعيات ومنظمات مختلفة بدأت تخطط لتنفيذ اعتصامات وتنظيم ندوات وبرامج تلفزيونية وتحضير إعلانات في الصحف ضد الحرب. الإدارة الأميركية محرجة. مطوقة بالاخفاقات. وترد بسيل من التصريحات تؤكد أن الحرب كانت ضرورية. وأن القوات الأميركية لن تنسحب من العراق لأن في بقائها ضماناً لأمن الولاياتالمتحدة والعالم واستقرارهما وحماية للسلام، وتعزيزاً للديموقراطية. الأميركيون يستعدون لإضاءة الشموع وإقامة الصلوات في مختلف الولايات وخصوصاً أمام البيت الأبيض عن أرواح ابنائهم القتلى. والمسؤولون الأميركيون يدعونهم إلى الاحتفال بالنجاح الكبير الذي تم تحقيقه ألا وهو إقرار الدستور العراقي!! وهو دستور كرّس الانقسام بين العراقيين ليكرس شكلاً من أشكال التقسيم لبلادهم!! وبالتالي ليعزز حالة الحرب المفتوحة، وتعميم الخطر داخل العراق ومحيطه!! فليس صحيحاً أن الاستقرار راسخ هناك، وأن الجوار مرتاح، وأن الخطر إلى انحسار. بالعكس، كل دول الجوار قلقة، مهددة، من الداخل ومن الخارج. والكل يتساءل إلى أين السياسة الأميركية، ولماذا هذا العناد ولماذا هذا الإصرار على سياسة الهروب إلى الأمام؟؟ وهل نجحت التجربة حتى الآن في مكافحة الإرهاب في العراق أم حولت ساحته إلى منبت لكل أشكال الإرهاب وموقع تصدير واستيراد له؟؟ وكيف يكون الخلاص؟؟ الأميركيون وفي آخر إحصاء نُشر في واشنطن قالوا كلمتهم: 53٪ منهم ضد بقاء القوات الأميركية في العراق. ومع عودة ابنائهم إلى بلادهم. الحرب لم تكن ضرورية هناك، لم يكن ضرورياً أبداً إرسال قواتهم إلى هناك. وليس ضرورياً الآن الاستمرار هناك!! أما الإدارة الأميركية فهي تصر على الحرب. والإرهاب لم يعد مقتصراً على تلك الساحة فحسب!! وإلى جانب الخسائر البشرية، ثمة خسائر معنوية كبيرة. فقد جاءت السيدة هيوز إلى المنطقة لتلميع صورة أميركا والقيام بحملة دعائية ومحاولة لتقريب الناس من السياسة الأميركية. شرحت كثيراً. ونظمت عدة لقاءات في كل الدول التي زارتها. وفي أكثرها قرباً من «فوق» من السياسة الأميركية. واجهت الصدمات كما اعترفت هي. لم يظهر الناس ارتياحاً وثقة بهذه السياسة. حمّلوا أميركا مسؤولية ما يجري. وأكدوا مجدداً أن شعوب المنطقة لا تكره أميركا، ولا تريد التطرف، ولا تميل إلى الحروب، لقد سئمت الحروب. شعوب المنطقة تتوق إلى الحرية والديموقراطية والانفتاح والتنمية والتطور والسلام والاستقرار، لكنها مصدومة من السياسة الأميركية. هي تكره هذه السياسة ولا تكره الأميركيين. وهي تستند في ذلك إلى التجارب ونتائجها وقد أدركت السيدة هيوز صعوبة مهمتها كما أدرك ذلك غيرها من قبلها. وعادت إلى بلادها محملة بسيل من الملاحظات والتساؤلات عند من التقتهم. حتى قيل إنها التقت سيدات لا يحظين بكامل حريتهن في عدد من الدول العربية وحاولت حضهن على مزيد من التحرك من أجل مزيد من الحرية وتحقيق خطوات ولو بدائية على طريق طويل للتغيير، فوجئت بأن جوابهن كان: لسنا قلقات. وبين الحرية على الطريقة العراقية وما نحن عليه، فلنبق على ما نحن عليه!! واعترفت السيدة هيوز بشيء من الصدمة في هذا المجال. لكنها الحقيقة المؤلمة والجارحة. وقد سبقها في عملها عدة لجان وفرق عمل زاروا المنطقة، استطلعوا أوضاعها، استمعوا إلى الناس، طرحوا سؤالاً واحداً: لماذا تكرهوننا؟؟ وكان الجواب واحداً، وكما ذكرناه: «لا نكرهكم. بل نكره سياستكم»!! المشكلة أن الإدارة استمرت في السياسة ذاتها، أي عملها استمرت في إنتاج المزيد من الكره لها!! وبالتالي المزيد من الرفض. والمواجهة، والفوضى، التي أراد بعض رموز الإدارة أن يصفها بالفوضى البناءة، ولم ير منها العرب والمسلمون أي شيء بناء، بل لم تحصد إلا الكوارث والخراب والدمار. وإلى جانب الخسائر البشرية والمعنوية، فإن خسائر مادية هائلة وقعت في العراق. وثمة ملفات كبيرة تتحدث عن عمليات هدر كثيرة حصلت. الفضائح في كل مكان والروايات مذهلة. والأرقام مرعبة. ترمى الأرقام ويتم الحديث عن مئات مليارات الدولارات. ويحكى عن ابتلاع مليار من هنا أو هناك من قبل هذا أو ذاك وكأنك تتحدث عن شيء عادي، أو بالنسبة إلى البعض كأنك تتحدث عن إنجاز كبير!! وقد حذر تقرير للكونغرس نُشر مؤخراً من خطر ذلك وقال: «إن إدارة بوش انفقت بلايين الدولارات من دافعي الضرائب في عملية إعادة الإعمار، إلا أن التقدم كان محدوداً أو شبه معدوم. وقد بدد قسم كبير من هذه الأموال. إن قليلين يدركون فعلاً مدى فشل جهودنا في إعمار العراق»!! لقد نُشرت معلومات مؤخراً تقول: «إن المفتش العام في البنتاغون غادر البلاد قبل سنة تاركاً وراءه ثغرات كبيرة في إنفاق مبلغ 140 بليون دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين في العراق!! وأكد المسؤول عن مكتب المفتش العام توماس غيمبل في مداخلته أمام إحدى اللجان في الكونغرس: «ليس لدينا خبراء في التدقيق في الحسابات في العراق»!! هل يمكن لأحد منا أن يصدق هذا الجواب؟؟ مثل هذا التبرير؟؟ هل يصدق أحد أن دولة تقود حملة عالمية ضد الفساد، ومن أجل الشفافية، وهي الدولة الأكبر في العالم ويقول مسؤولوها أمام مشهد كالمشهد العراقي، وفي غرف أعرق المؤسسات السياسية ومراكز القرار في العالم، ليس لدينا خبراء في التدقيق في الحسابات؟؟ إذا كانت هذه هي خلاصة صورة نتائج السياسة الأميركية في العراق، فهل يمكن أن تطمئن الأميركيين والعراقيين والعرب على حد سواء؟؟ لقد صوّت العراقيون على الدستور ومع تمنياتنا الكاملة الصادقة لإخواننا العراقيين بالخروج من دوامة الحرب والوصول إلى صيغة سياسية راسخة ثابتة تعالج مشاكلهم فإننا لا نرى في الواقع ما يطمئن. وما يؤلمنا هو هذا الشعور بأن الحروب ستبقى مستمرة. ولن تكون البلاد مستقرة. وأخطر ما في الأمر، أن ما يجري في العراق لا يقف عند حدود البلاد فقط. فما حذرنا منه سابقاً من أن مشروع «عرقنة» المنطقة هي النتيجة العملية للحرب الأميركية على العراق، أي تعميم الفوضى والحروب المذهبية والطائفية، وانطلاق مشروع التقسيم من العراق بعد أن انطلق مسبقاً من لبنان وسقط بعد أثمان غالية. هذا المشروع هو الذي نراه أمامنا اليوم في ظل ظروف عربية معقدة، وتفكك وانقسامات ومشاكل لا تحصى ولا تعد داخل دولنا وبين بعضها البعض، وضغط أميركي وتقدم إسرائيلي على مختلف الجبهات عموماً!! كل العالم منشغل بالتحقيق بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. وبتقرير القاضي ميليس. وفي ظل انشغاله تم التصويت على الدستور في العراق. وقد تفتعل مشاكل وأزمات هنا وهناك وتأتي كل واحدة لتقضي مؤقتاً على ما كان متفاعلاً قبلها لكن كل ذلك يأتي في سياق واحد وبرمجة واحدة. ونحن في لبنان معنيون مباشرة بنتائج التحقيق وستبقى بالنسبة إلينا الأولوية لكن نظرتنا للأمور شاملة وندرك أن الترابط بين ما يجري في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واحد. ولا نريد عراقاً آخر في أي مكان. فهل يتجنب بعض قادتنا سلوك الطريق الذي سلكه صدام في سياق تعاطيهم مع تقرير القاضي الألماني السيد ديتليف ميليس؟؟