.. حتى بدايات شهر سبتمبر - أيلول الفائت، ذكر لي صديقي الكاتب والباحث الاجتماعي عبدالله المحيميد، بأنه في طريقه إلى عمليات عدة تطال «القولون» المتأزم عنده منذ سنوات، وكان لابد من استشارة أطباء عدة ما بين مستشفيات الرياضوجدة، وهو في عز إقباله على هذه اللحظات العصيبة، كان يعد لنشر كتابه الثاني في النقد الثقافي، من بعد الأول: «تقشير: قراءة في الثقافة والمجتمع السعودي، دار الكنوز الأدبية - 2002 (بيروت)»، وهو كتاب جميل سنحت لي الفرصة الاطلاع عليه، لغير محمل الصداقة والألفة الثقافية بيننا، بل أخذته بيدي مطبوعاً ومحفوظاً على قرص إلى بيروت مفاوضة لنشره هنالك.. تركت أبا ضاري، عبدالله المحيميد، وحيداً يواجه ذلك المصير، كانت تطيف بذهني الكثير من الشواهد الحاضرة ذات الحيوية والمتقدة بلمحاته الكلامية المحببة لي بنكهتها القصيمية الطازجة التي لمعت على مقامه الأخير في مدينة جدة، مثل جملة الممازحة: «الله يخسك يا أحمد بتورطنا بالأسئلة الكبيرة».. أو جملة التحبب الأثيرة:» يا حبي لك والله تغيرت وصرت مهبول».. أو تعليقاته الكثيرة حول شخصي الذي هو مخلص الود له، وسأحتفظ بكثير من التعليقات تلك في داخلي، فهنا ليس وقتها أو مكانها.. تذكرت زيارته الجميلة إليّ في الرياض، خلال أيام ليست بعيدة قبل أشهر كانت، ذهب إلى السكنى مع صديق في بيته والتقينا عصر اليوم الثاني في المقهى الدمشقي من بهو فندق صلاح الدين مراراً، وذهبنا إلى المكتبة التراثية، بعينيه الجهورتين المتقدتين كان يطالع في تأمل وتفكير ذكيين نحو ما سيختاره، كذلك هو لا يخلو تجواله في المكتبة بين الأرفف من تعليقاته على الكتب التي تعنيه، كان يحدق ويمد يديه إلى حمل وتصفح كتبه الأثيرة في التاريخ الاجتماعي «كالرحلات والسير» أو الأنثروبولوجي «علم العرق البشري» أو الميثولوجي «علم الأسطورة»، والكتب الأخرى التي تستهويه.. أتذكر جيداً عندما خرجنا منها، ثم تمشينا واخترنا مكاناً للعشاء كان مطعم «بعلبك» بشارع العروبة، فتحدثنا طويلاً عن التاريخ العربي موصلاً إياه بشكل نقدي وتحليلي إلى عهد الممالك العربية الأولى التي كانت نواة أولى لتاريخ ربما لم تمهله السنوات أن يبني تراكمه الكامل، وتحدث لي عن مدينة الرياض وتجربتها الاجتماعية وما ستصل إليه كونها مدينة نجدية كبرى، وتحدث لي عن مكةالمكرمة ومفهومها المدني في مواطنتها العالمية، بسبب مكانتها كأرض مقدسة إسلامية استطاعت أن تجمع قبائل وشعوب الدنيا وتتحول إلى مدينة عالمية، وتحدث لي عن أزمة تقبل الشعر بالنثر «أو قصيدة النثر» من وجهة نظر اجتماعية محاولاً أن يقرأ هذه الإشكالية اجتماعياً، مؤكداً أن تحميل الجانب الأدبي فيها أوصلها إلى طريق مسدود، فلابد من تهدئة الجانب الأدبي فيها وفتح مجال لإعادة فهم ما يمثله الشعر الموزون «العامودي» كمعادل لقيم اجتماعية وأصول تتحكم في اللاوعي الجمعي للمجتمع العربي، وان قصيدة النثر هي معادل - كما يتوهم بعض - لقيم وأصول وافدة، وما كانت المقاومة في إطارها الاجتماعي سوى دفاع العاجز عن التكيف والإدراك خلطاً للأوراق والأنفاس.. الآن، أذكره عندما لم يتسن له زيارة معرض الكتاب الذي أقيم في جامعة الملك سعود أوائل سبتمبر 2004، عوض خيراً بالمعرض الذي لحقه في جدة وأذكر جيداً اتصاله عليّ من هناك لندردش حول الكتب وكان قد أراد أن نتشاور في كتاب كبير مكون من مجلدات خمسة عن البدو، يحكي تاريخ القبائل العربية، أنجزه الألماني أوبنهايم بمعاونة آخرين أكملوا إنجاز وتحقيق المخطوطات والمدونات ثم ترجمة محمود كبيبو وميشيل كيلو مراجعا وراءهم ماجد شبر وصدر عن دار الوراق العربية في لندن.. أتذكر انني قلت له: خذه حتى وإن كان ثمنه غالياً، فهو ثروة ستحتاجه بدل الكتب العربية التي تؤلف عن هذا الموضوع نفسه، لكنها دون منهج علمي استقرائي أو مقارن، بل مجرد صراخ صوتي حول أسوار الانتماء وما داناه.، وفيما بعد أرسل لي قبل أشهر الكثير من الأوراق المصورة في إطار علم النفس - علمي الأثير - وعلم الاجتماع، باعثاً لي الدفاتر الفلسفية التي أصدرتها دار توبقال، وغدت نادرة الحصول في مكتبات المشرق العربي، وكذلك بعث لي نسخاً من مجلة الفكر المعاصر، ولم ينس أن يختار لي مصورة من المجلد الرابع لكتاب البدو، من البحث الذي يتكلم عن القبائل المنبوذة في الجزيرة العربية، بأنواعها دهشت بشكل كبير، وأنا أذكر ان المادة التي كتبها أوبنهايم عن هذه القبائل الباريا Pariah تعتمد على بعض موصوفات ديكسون في كتابه «عرب الصحراء»، وعلى ما كتب في الموسوعة الإسلامية، مع إضافات تحليلية عيانية، وتفاصيل أكثر، كان بحثاً جميلاً قادني بدون شعور إلى شراء المجلدات الخمسة.. أتذكر أنني عندما شرعت العمل في مجلة «حقول» تلك المجلة التي تعنى في ثقافة الجزيرة العربية، فأخبرت عبدالله عن أمرها فرح جداً وقال لي مثلاِ نجدياً ضارباً في عروقنا: «جاك يا مهنا ما تمنى»، كان مشجعاَ تماماً لهذه الخطوة وقال بأنه سيتعاون معنا، وقد ذكرني انه أخذ كتاب: «القضاء عند البدو» للمؤرخ الفلسطيني عارف العارف، واستعد لأن يكتب مراجعة للكتاب لصالح المجلة، ولم يتأخر خلال أيام وصلتني مراجعته.. عندما تباحثت في بيروت أنا والسيد نبيل مروة مدير مؤسسة الانتشار العربي، التي أصدرت مجموعتي الشعرية الثالثة: «مهلة الفزع»، كنا سقنا الحديث عن كتاب عبدالله المحيميد الجديد، وأخبرني انه صغير الحجم، وهو مستعد لنشره وسلمته المقدمة التي أرادني عبدالله أن أكتبها، تبين تصنيف مقالاته التحليلية، حيث نقل لي الكثير من تعليقات من قرؤوه: بأنها مقالات قصيرة لو تطول، وبعض يقول كما لو كانت نصاً أدبياً مفتوحاً، وآخرون يقولون زد أكثر من ذلك...، وهو أراد أن أظهر علاقة كتابته بالنقد الثقافي تماماً.. أعرف أن عبدالله من خلال مقالاته العديدة، التي نشرها في صحيفة البلاد أو عكاظ أو «الرياض»، سواء كانت على شكل مراجعة كتاب أو مداخلة معه، أو مقالة زاوية أو قصة قصيرة - الحمدلله رضي أن يجمعها في كتاب - يتبع حساً حدسياً عالياً، يبدأ منذ اختيار الموضوع أو حتى انتقائه وفلترته، ومن بعد التفكير والتحليل ثم كتابة النص أياً كان نوعه.. أذكر قبل أن أذهب إلى بيروت، اكتشفت عن طريق الباحث والمترجم سعيد الغانمي الذي تعاون معنا في مجلة «حقول» بمقالة تبحث عن الأدب الثمودي، أخبرني هاتفياً انه يترجم كتابا للباحث الأوكراني الأصل: ياروسلاف ستيتكيفيتش، الذي كتبه عن أسطورة ثمود العربية تحت اسم: «محمد والغصن الذهبي: ترميم أسطورة عربية»، فترجم الغانمي العنوان إلى: «العرب والغصن الذهبي: إعادة بناء أسطورة عربية»، فحصلت عليه عن طريق صديق، وبعثت نسخة إلى عبدالله فرحا به، فهو كنز يعيد تأهيل الحكاية القرآنية ويحلل مجتمع ثمود وسبب فنائه، ويعيد فهمه على ضوء نظرية الغصن الذهبي التي أنجزها البريطاني جيمس فريزر، وهذا ما أضر بالدراسة - لهذا شأن آخر -، لكن الذي تحمسنا له أنا وعبدالله المصادر المهولة التي توفرت بين يدي الباحث من الكتب العربية التاريخية والأسطورية المحققة في طبعاتها الأولى عن ليدن ونيودلهي إلى بولاق، لا ما مرت عليه الرقابة الحمقاء وأساء المحققون العرب بأوهامهم إليه، فأجروا عمليات اخصاء لن يغتفرها التاريخ، ولا حتى حنق عبدالله.. الذي بقي لديّ أيضاً على الدار التي حتى أخرت نشر الكتاب لأربعة أعوام، غير مدركة أهميته.. منذ يومين، خلال ساعة زمن وأنا مع صديق نذرع شارع العليا العام باحثين عن موقف وعاجزين لنقف عند محل ملابس أردناه، باغتني اتصال من عبدالله المحيميد، بعد اتصالات مني على جواله لم يرد عليها أو رسائل لست متأكداً من وصولها، قال بأنه: عاد من الموت وانه اكتشف نفسه بعد ثلاث عمليات وأنابيب احتلت كل فتحات جسمه، خففتها حالة طويلة من اكتظاظ الحب والحنان، أهله باخوانه واخواته، كذلك الأصدقاء الذين جاءوا من بريدة والرياض، وزملاء العمل جاءوا إليه، وعلى انه عانى في أواخر هذه العمليات تجلط الامعاء، إلا انه سيتطلب علاجا طويلا، لكن زال الخطر عنه وما يمهد لإنهاء معاناة المرض عبر أشهر هو التقيد بالتمارين والعلاج الطبيعي. لقد سعدت جداً، ويقول عبدالله بأن ما مر به أشبه بنص شعري وإعادة خلق شخصي له، فتذكرت نص سعد الله ونوس، «في مجاهل موت عابر»، وتذكرت عناد محمد شكري مع المرض، لكنني تذكرت ابنه ضاري وأمه هند شريكة العمر والحبيبة، وشعرت بإحساس أكبر هو أن محبوبنا عبدالله قد عاد، اليوم عاد من الموت، وبراءة الأطفال في عينيه..