حين يمتلك الإنسان الوجع القاهر؛ فإنه لا يجد ما يمتص ذلك الألم إلا فنجان قهوة لذيذة ومُرة في الوقت ذاته، يرتشفها بهدوء ليتمكن من رفقتها أكبر وقت ممكن، ثم حين ينتهي يرى حُبيبات الوجع، الهموم، الحكايا التي لا تُقص إلى أحد.. يراها في آخر الفنجان تدور بحثا عن مخرج ينجيها من هاوية الفنجان التي وقعت فيها. وحين يكون الإنسان مسترخيا بحاجة إلى اللِّين والدَّعة، وحين يصيبه الإنهاك والسُّهد؛ فهو بحاجة إلى مصاحبة هذا الشراب السائغ. تعد القهوة واحدة من المرتبات الثلاث الأولى بين أكثر المشروبات تداولا في العالم – كحال الماء – رغم الكثير من النصائح السابقة حول التقليل منها، وحملات تشويه السمعة وتلبيسها الأضرار الجمّة، حتى أنهم خلقوا لها مواد تبيض وجهها أمام هذا العالم المشرّب سوادا!. تناقل المؤرخون بعض الروايات حول بداية زراعة شجر البن وعمل مشروب القهوة، والمؤكد أنها ترجع إلى بلاد الحبشة، وأن الشيخ الإمام جمال الدين الذبحاني قد سافر إلى بلاد الحبشة وأقام بها ووجد هناك أناسا يشربون القهوة ثم عاد إلى عدن، وأصابه بعض المرض؛ فتذكر القهوة الحبشة وشرب منها، ولاحظ أنها تذهب التعب وتبعث النشاط والاسترخاء للجسم، ومن هنا عرف أهل اليمن القهوة وانتشرت زراعة البن. إلا أن الرواية الأشهر هي أن الفضل فيها يعود إلى علي بن عمر الشاذلي شيخ موخا –ميناء باليمن– وظل هذا الاسم مرادفا للقهوة لمدة ألف عام ومنه جاءت "موكا" إحدى أصناف القهوة الشهيرة، وقد نشرها الشاذلي بين المريدين للسهر على الطاعات، ثم انتقلت إلى مصر والحجاز وبسببها أثيرت ضجة هائلة في عهد الحكم المملوكي، وكان السلطان قانصوه الغوري قد عين خايبر بك ناظرا على الحسبة في مكة، حيث رأى ليلا خلال طريقه من الكعبة إلى بيته جماعة تحتفل بالمولد النبوي وهم يتعاطون شيئا على هيئة الشربة الذين يتناولون المسكر، ومعهم كأس يديرونه بينهم، وعندما سأل عن الشراب المذكور وعرف أنه يسمى " قهوة " قد فشا أمره وصار يباع على هيئة الخمارات ويجتمع الناس عليه بالرهن، فقلق الناظر وجمع القضاة والعلماء والأطباء لمناقشة هذا الحدث، فخرجوا بتحريم هذا المشروب بحجة أنه بارد يابس مفسد للبدن المعتدل، وأن ما يصاحب شربها من مظاهر وأحوال شبيهة بالمحظورات الشرعية، وحين وصل الأمر إلى السلطان الغوري أصدر مرسوما لنشره في الحجاز جاء فيه : " أما القهوة فقد بلغنا أن أناسا يشربونها على هيئة شرب الخمر، ويخلطون فيها المسكر، ويغنون عليها بآلة، ويرقصون وينكسرون، ومعلوم أن ماء زمزم إذا شرب على هذه الهيئة صار حراما؛ فليمنع التظاهر بشربها والدوران بها في الأسواق". وكما كان الحال نفسه في مصر، حيث بدأ المتصوفون في الأزهر بشربها لتساعدهم على الدراسة والاستيقاظ والذكر، ويصف المؤرخ " الجزيري " حال القاهرة وتعامل العثمانيين مع أصحاب القهوة، فيقول : "كان العسس على الفحص الدائم في البيوت والأسواق، فضربوا باعتها وأشهروا وهدموا البيوت وكسروا أوانيها المحترمة الطاهرة التي هي من مال رجل مسلم.. ولم يبلغنا فعلهم مثل ذلك في أواني الخمر والبرش والحشيشة!". الجدير بالذكر أن القهوة لم تحرم في المدن الإسلامية والعربية فقط، ففي روسيا شن فريدريش الأكبر حملة لحظر القهوة دفاعا عن صناعة البيرة التي رأى فيها رمزا للهيمنة الألمانية في وقت ساد فيه شعار " لا تثق في أي شيء غير ألماني " وانعكست هذه القضية في عرض عمل فني موسيقي أوبرالي يدعى " كانتاتا القهوة " دفاعا عن القهوة؛ يحكي هذا العرض قصة أب صار يهدد ابنته التي تعشق شرب القهوة بأن تختار بين خطيبها أو الاستمرار في شرب القهوة، ولكنها أصرت على شربها وحاربت هذا الفكر حتى استطاعت في نهاية المطاف الزواج من خطيبها واشترطت عليه أن ينص في عقد الزواج على حقها في صنع وشرب القهوة وقتما تشاء.