السعودية باختصار    ولاء بالمحبة والإيلاف!    نائب وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة (105) من طلبة كلية الملك فيصل الجوية    أمير منطقة القصيم يعزي أسرة الزويد.. ويوجه بتسمية قاعة بالغرفة التجارية باسمه    السعودية نجم «دافوس»    اتفاقيات التعاون.. والتكاذب المؤسّسي    أسعار العقار بيننا وبين الصين!    القطيف تعزز الاقتصاد الزراعي ب«سوق المزارعين»    اليوم.. تدشين منتدى مستقبل العقار    السعودية وسورية: الرهان على الشعب السوري!    «البرلمان العربي»: محاولات تهجير الفلسطينيين من غزة انتهاك صارخ للشرعية الدولية    الأردن تدين استهداف المستشفى السعودي بمدينة الفاشر السودانية    "سلمان للإغاثة" يواصل تقديم المساعدات الإغاثية في بلدة جباليا شمال قطاع غزة    المملكة تدين استهداف المستشفى السعودي في الفاشر    استئناف إصدار تأشيرات الدخول للسودانيين عبر سفارة المملكة في بورتسودان    "عصر ذهبي" لأميركا و"تطهير" سكاني لغزّة!    نيمار حدد موعد ظهوره بشعار سانتوس    صدارة هلالية اتحادية    طلال بن محفوظ - جدة    الأهلي يتخم شباك الرياض.. النصر يجتاز الفتح    النصر يؤكد بقاء الثنائي العقيدي وغريب :"عيالنا .. كفاية إشاعات"    المشكلة المستعصية في المطار !    شريف العلمي.. أشهر من طوّر وقدّم برامج المسابقات المُتَلفزَة    وجناح «هيئة الأدب» يجذب الزوار    عمل بعيد المدى لوزارة الشؤون الإسلامية    الدراسة عن بعد بمدارس وجامعة القصيم.. غداً    محافظ الخرج يستقبل الرشيدي    أمير الرياض يحضر الحفل السنوي الكبير على كأس المؤسس وكأسي خادم الحرمين الشريفين للخيل    «حرس الحدود» بمكة يحبط تهريب 3 كيلوغرامات من الحشيش    المديرية العامة للسجون تدشن "مراكز تنمية قدرات النزلاء"    اليوم السلام ضرورة وليس خيارا    بموطن الشعر والشعراء.. الصقور تعيد الحياة لسوق عكاظ    انطلاق المنتدى الأول لجمعيات محافظات وقرى مكة المكرمة .. بعد غداً    خادم الحرمين يهنئ الحاكم العام لكومنولث أستراليا بذكرى يوم أستراليا    ولي العهد ورئيسة وزراء إيطاليا يوقعان اتفاقية إنشاء مجلس الشراكة الاستراتيجية بين البلدين    مستشفى دله النخيل بالرياض يفوز بجائزة أفضل خدمات طوارئ في المملكة 2024    "الفقيه" يدشن فعاليات معرض "سابك الفني 2025" بمشاركة أكثر من 52 دولة و400 مشارك    "التجارة": نمو السجلات التجارية في قطاع التعليم 22% خلال العام 2024    ضيوف الملك.. خطوات روحية نحو السماء    المرور : استخدام "الجوال" يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في القريات    تجمع الرياض الصحي الأول: نحو رعاية وأثر في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    الدولة المدنية قبيلة واحدة    جامعة طيبة تُعلن بدء التقديم على وظائف برنامج الزمالة ما بعد الدكتوراه    وفد من مؤسسي اللجنة الوطنية لشباب الأعمال السابقين يزور البكيرية    الموارد البشرية تصدر عددًا من قرارات التوطين ل 269 مهنة في القطاع الخاص    الديوان الملكي: وفاة والدة صاحب السمو الأمير فهد بن سعود بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    آل الشيخ من تايلند يدعو العلماء إلى مواجهة الانحراف الفكري والعقدي    رئاسة الحرمين.. إطلاق هوية جديدة تواكب رؤية 2030    تدشن بوابة طلبات سفر الإفطار الرمضانية داخل المسجد الحرام    دراسة: تناول الكثير من اللحوم الحمراء قد يسبب الخرف وتدهور الصحة العقلية    المالكي يهنئ أمير منطقة الباحة بالتمديد له أميرًا للمنطقة    ترحيل 10948 مخالفا للأنظمة خلال أسبوع    تمكين المرأة: بين استثمار الأنوثة والمهنية ذات المحتوى    «ليلة صادق الشاعر» تجمع عمالقة الفن في «موسم الرياض»    هيئة الهلال الأحمر السعودي بمنطقة الباحة جاهزيتها لمواجهة الحالة المطرية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيسة مجلس الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني    إنجازات تكنولوجية.. استعادة النطق والبصر    الهروب إلى الأمام والرفاهية العقلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب العربي المعاصر في الجامعات الأمريكية مغمور ولكن هناك بصيص أمل
الناقد د. صبري حافظ ل «ثقافة اليوم»:
نشر في الرياض يوم 27 - 10 - 2005

الناقد صبري حافظ صوت نقدي جذري ومتميز. يشغل اليوم كرسي أستاذ لتدريس الأدب العربي المعاصر بجامعة لندن «SOAS» ذات العراقة المعروفة باهتماماتها بثقافات وفنون وعلوم العالم الثالث، درس وحاضر في العديد من جامعات العالم وكتب ونشر في عموم الدوريات العربية والعالمية. أصدر العديد من الكتب النقدية المهمة، فقد نشرت له الهيئة المصرية لقصور الثقافة بالقاهرة تحت سلسلة كتابات نقدية «سرادقات من ورق» في العام 1998 وهو كتاب ضخم حاور وناقش وصاحب وساجل أبرز الأسماء العربية في الابداع والفكر والمعرفة والمسرح بدءا من يحيى حقي مرورا بلطيفة الزيات، أميل حبيبي، نزار قباني، سعد الله ونوس وبدر شاكر السياب الخ. اما كتابه الأميز فقد نشر في بيروت تحت عنوان «أفق الخطاب النقدي» في العام 1996 وهي مجموعة دراسات نظرية وقراءات تطبيقية ذات خصوصية منهجية تشي بنهجه النقدي بالذات على الخصوص ما يهم آداب وقضايا المرأة في العالم العربي والعالم. ولعل الدكتور حافظ كالنقاد ا لبارزين عبدالله الغذامي ومحمد برادة وفي بعض الاحيان صلاح فضل كانت وما زالت موضوع المرأة وإبداعاتها من المكونات الاساسية في استراتيجيتهم النقدية. اما كتاب «مرايا الذات الأخرى» فقد جاء حول رحلته إلى جنوب افريقيا كمحاضر زائر في جامعاتها. وقد جاء الكتاب أخاذا في قيمته النقدية والسياسية الانسانية.د. حافظ رحالة معرفي فقد درس في جامعات عالمية عدة منها على سبيل المثال اوبسالا السويدية ذائعة الصيت. لقد دعي في بداية هذا العام للتدريس في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة ولفترة فصل دراسي انتهى في الشهر الماضي. كانت لدي رغبة حارقة للتعرف على أفكار وميول. تطلعات وأهواء ومطالعات الطلبة الامريكان في جامعة من أعرق وأغلى وأهم جامعات العالم. فكانت اسئلتي تدور حول هذه النقاط بالذات، تاركة اسئلتي الباقية حول نظريته ومنهجه النقدي إلى حوارات قادمة. هذا الحوار الذي ساعدني فيه الكومبيوتر ما بين بوسطن وباريس.
٭ كيف تتم دعوات الأساتذة الكتاب العرب إلى إلقاء محاضرات، التدريس في الجامعات الأمريكية بالذات؟
- أولا ليس هناك برنامج لدعوة الأساتذة أو الكتاب العرب لإلقاء محاضرات أو للتدريس في الجامعات الأمريكية. ولكن حدوث ذلك هو من الاستثناءات النادرة التي تعتمد على مجهودات فردية عادة من قبل الداعي أو المدعو. صحيح أن هناك عددا لا بأس به من الأساتذة العرب يعملون في الجامعات الأمريكية، ولكن لم يطور أي منهم برنامجا لدعوة كتاب أو أساتذة عرب للمحاضرة في جامعته أو غيرها من الجامعات. وحتى تتضح حقيقة الأمر، لابد من الوعي بحقيقة أساسية بسيطة وهي أن الجامعات الأمريكية، والجامعات المرموقة منها خاصة - وجامعة هارفارد هي أرقاها جميعا - هي جامعات خاصة وليست جامعات حكومية كما هي الحال في بلادنا، أو حتى في فرنسا أو ألمانيا. صحيح أن هناك جامعات تابعة للولايات أو تمولها الولايات وليس الدولة الفيدرالية، لكنها أقرب إلى الجامعات الخاصة منها إلى الحكومية من حيث منطق الإدارة. لأن تميز الجامعات الخاصة واستحواذها على كل أماكن التفوق في ترتيب الجامعات الأمريكية - حيث لا تجدين أي جامعة شبه حكومية في أرقى عشرين أو ثلاثين جامعة في الولايات المتحدة، وإنما يجيئ ترتيبها متدنيا في هذه القوائم التي ترتب الجامعات وتقرر مكانتها - يجعل جامعات الولايات شبه الحكومية حريصة على تقليد الجامعات الخاصة وتطمح إلى التشبه بها. إذن لابد من الانطلاق في الإجابة على سؤالك من هذه الحقيقة البسيطة، والتي استفادت منها التكتلات ذات المصالح التي يتيح لها النظام الأمريكي ذاته التأثير والتوجيه. لأن النظام الأمريكي نظام رأسمالي صرف، يتيح لمن لديه الثروة توجيه دفة الأمور في مجتمعه، والتحكم في جزء كبير مما عليه أن يدفعه للدولة في صورة ضرائب. فبدلا من أن تجني الدولة الضرائب ثم تنفقها وفقا لأولوياتها السياسية، بما في ذلك الاستثمار البشري في الصحة والتعليم، يستطيع الممول الثري خاصة أن يقدم جزءا كبيرا من أمواله لمشروع تعليمي أو ثقافي أو صحي محدد، ويخصم كل ما قدمه لهذا المشروع مما عليه من ضرائب. وهذا ما أعنيه بالتحكم فيما عليه أن يدفعه للدولة في صورة ضرائب، وتوجيهه للجهات التي يريد الإنفاق عليها. وقد أتاح هذا النظام للجماعات اليهودية والصهيونية خاصة استثمار كثير من أموال اليهود الموسرين في التعليم، وتقديم منح نقدية كبيرة للجامعات المرموقة خاصة - تخصم مما عليهم دفعه من ضرائب - كي توقفها - بطريقة الوقف الإسلامية المعروفة - على وظيفة محددة من حق الواقف رسم بعض أو كل شروطها. كأن يوقف عائد تبرعه مثلا لتقديم منحة لطالب يهودي، أو لدارس يدرس موضوعا بعينه، أو لتيسير زيارة أستاذ مادة معينة من بلد محدد للمحاضرة في الجامعة التي يقدم لها الوقف لسنة، أو حتى لفصل دراسي واحد. بهذه الطريقة تؤسس منح كثيرة لطلاب من جنسية معينة، أو لدراسة موضوع محدد، أو منح لزيارات الأساتذة بنفس الطريقة. والجامعات الأمريكية لها باع طويل في هذا المجال. حيث ترحب بمثل هذه الأوقاف لأنها تزيد عدد طلاب الجامعة، أو تشجع التلاقح الفكري من خلال زيارات الأساتذة. وهناك عدد من هذه الأوقاف التي تتيح لأساتذة وكتاب من الدولة العبرية المحاضرة في كبريات الجامعات الأمريكية بانتظام، على عكس الحال بالنسبة للأساتذة العرب. فالجامعة يهمها في المحل الأول تمويل أكبر قدر من منحها أو زيارات الأساتذة لها بطريقة مضمونة لا تعتمد على ميزانية الجامعة العامة التي كثيرا ما تعاني من الضغوط. وقد بدأت الجامعات البريطانية تحذو حذو الجامعات الأمريكية في هذا المجال، لذلك لزم التنويه. لعل المال العربي الذي ينفق في سفه على سفاسف الأمور يعي أهمية تأسيس مثل هذه الأوقاف في الجامعات الغربية لأن هذا هو أفضل استثمار في تحسين صورتنا في الغرب.
والواقع أن معرفتي بالجامعات الأمريكية، فقد درّست في ثلاث منها، هي التي تدفعني إلى توضيح هذا الأمر للقارئ العربي، وللموسرين العرب خاصة كي يدركوا أهمية التبرع بأوقاف محددة وموجهة لخدمة الباحثين العرب من طلاب وأستاتذة. فقد أغدق اليهود كثيرا من أموالهم على الجامعات الأمريكية والبريطانية لتأسيس كثير من المنح والوظائف التي تعتمد على أوقاف موجهة من هذا النوع. وهذا ما مكن اللوبي الصهيوني خاصة من التأثير على طريقة تكوين عقلية الطالب الأمريكي العام الذي يدرس الشرق الأوسط، والذي سيتحول في المستقبل إلى عامل مؤثر في رسم السياسة الأمريكية بالنسبة للمنطقة حينما يحصل بعد تخرجه على وظيفة لها علاقة بالمنطقة من البيت الأبيض والخارجية الأمريكية إلى الإعلام وبنوك الاستثمار ومؤسسات التعامل مع المنطقة وحتى الجامعة اساتذة ومجتمعا. وأي دراسة مقارنة لعدد الأساتذة العرب - من كل البلاد العربية العشرين - الذين يتاح لهم زيارة الجامعات الأمريكية والمحاضرة فيها؛ وعدد الأساتذة الذين تتاح لهم نفس الفرصة من الدولة العبرية تكشف عن خلل كبير في هذا المجال، لأن النسبة هي أقل من واحد من كل البلاد العربية مجتمعة لكل عشرين من الدولة العبرية. لهذا فإن جوابي على سؤالك هذا يثير الأحزان، بمعنى أنه في الوقت الذي ترسخت فيه في كبريات الجامعات الأمريكية آلية لدعوة كتاب وأساتذة من الكيان الصهيوني بصورة دورية ومنتظمة، ليست هناك آلية مماثلة بالنسبة للكتاب والأساتذة العرب. وتعتبر دعوة أستاذ عربي للمحاضرة في جامعة من تلك الجامعات الكبرى لفصل دراسي واحد مثلا من الاستثناءات النادرة التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها. ومن هذه الاستثناءات النادرة هذا الوقف المحدود «وقف الشوّاف» في جامعة هارفارد والذي يدعم دعوة أستاذ عربي لفصل دراسي واحد، والذي سبق أن دعي خلاله لنفس الجامعة جامعيون أفاضل من رضوان السيد إلى جابر عصفور وماهر جرّار.
٭ كيف هو الأدب العربي في هذه الجامعات الأمريكية؟ هل هو معروف، مغمور، عادي، أقل من عادي وربما تافه؟
- قد تكون الإجابة على هذا السؤال هي أي من الخيارات الأخيرة في سؤالك من أول مغمور وحتى تافه. صحيح أن هناك غلبة في معظم الجامعات التي يدرس فيها الأدب العربي- بما في ذلك جامعة هارفارد- لدراسة الأدب القديم والدراسات الإسلامية، وهي غلبة ليست منبتة الصلة بما أشرت إليه في إجابتي على السؤال السابق. لأن التركيز على دراسة الأدب القديم وتجاهل الحديث كلية أو شبه كلية- حيث لا نجد غير حفنة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة من الدارسين المرموقين للأدب الحديث في الجامعات الأمريكية على كثرتها- ينطوي على تصور مفاده أن العرب كانت لهم حضارة قديمة ثم بادت. وأنهم لا ينتجون في حاضرهم شيئا يستحق الدراسة. لذلك يعاني الأساتذة الأمريكيون الذين يحرصون على رفع راية الأدب العربي الحديث من هذه النظرة القديمة الراسخة. أما دراسة الإسلام فإنها -كما برهن إدوار سعيد في دراساته المهمة في هذا المجال - أقرب إلى تشويهه وتكريس الأفكار المغلوطة عنه. لأن هذا التشويه جزء أساسي من بنية فكرة السيطرة والهيمنة الغربية على العالم الإسلامي ومن أطروحة القوة التي تنهض على معرفة تدعم هذه السيطرة وتبررها. وهي آلية يقوم فيها النظام العربي الخائر والتابع بدور العامل المساعد على تكريسها، لأنه يبرهن بممارساته على صحة كل هذه التحيزات. وتؤثر هذه العوامل جميعها على صورة الأدب العربي في الجامعات الأمريكية، وإذا كان أدبنا الحديث هو أملنا الوحيد في تصحيح هذه الشويهات والأفكار المغلوطة فإن علينا أن نستثمر قدرا كبيرا من الجهد والمال العربي لخلق آليات تضمن استمرار وجوده من خلال الأوقاف التي تيسر دعوة الكتاب والأساتذة العرب للمحاضرة في الجامعات الأمريكية وجعل الأدب العربي فيها حاضرا بالمعني الفيزيقي المجسد، وبالمعنى الفكري المجرد في آن. وإلا سيظل وجوده مغمورا وعاديا وتافها.
٭ الأفكار المسبقة والنظرة الاختزالية التبسيطية للثقافة العربية من قبل الكثيرين من أجيال سابقة في الولايات المتحدة. ترى كيف هو هذا الجيل؟ كيف يقرأنا؟ هل يتابعنا؟ هل يريد التعارف والتحاور بدلا من الصراع والاستعلاء؟
- بداءة هذا الجيل الجديد هو من تلامذة الجيل القديم الذي تشكين منه! فقد تتلمذ عليهم، وحرص على الاستحواذ على دعمهم كي يضمن الترقي والنشر. لأن بنية التراتب الأكاديمية تكرس رؤى القديم، وتجعل الجديد المختلف والمغاير يواجه صراعا مستمرا في هذا المجال للسباحة ضد التيار، وهو صراع موجود وقائم بالفعل ولكنه يحتاج إلى صبر ودأب وعمل متواصل. صحيح أن ثمة دور تراكمي لعدد من الأساتذة العرب الذين واصلوا العمل طوال العقود الماضية في عدد من الجامعات الأمريكية لتغيير هذه النظرة، ولطرح تصور مغاير عن التصور التقليدي الاختزالي التبسيطي أو بالأحرى التشويهي القديم، إلا أن الواقع العربي المتردي- لمرارة المفارقة - يدعم نظرة الجيل القديم التشويهية. لكنني لا أريد أن أقدم لك صورة قاتمة. فثمة بصيص من الضوء ناجم عن تغير في آلية الصورة الداخلية لدراسة الأدب في الجامعات الأمريكية التي تنتشر فيها برامج دراسة ما يسمى بالأدب العالمي، وبرامج دراسة الأدب العالمي هذه هي التي يتاح فيها تدريس عدد من النصوص العربية خاصة تلك التي ترجمت للغة الانجليزية، وخاصة أن دارس الأدب العالمي أو بالأحرى مدرسه يعرف أن هذا الأدب قد حصل عبر نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب التي كان لها فضل كبير في لفت الانتباه للأدب العربي الحديث برمته في مثل هذه البرامج، وليس لأدب نجيب محفوظ وحده. وقد قمت مؤخرا بتحرير القسم الخاص باللآداب العربية والإسلامية في مختارات لونجمان للأدب العالمي Longman Anthology of World Literature وهي مختارات من ستة أجزاء ومن أكثر من ستة آلاف صفحة تبدأ بملحمة جلجامش وتنتهي بالأدب الحديث وتضم مختارات من كل الآداب الإنسانية- بما في ذلك مختارات عربية تبدأ من الشعر الجاهلي وتمتد حتى الأدب المعاصر- وتعتمد عليها الآن برامج تدريس الأدب العالمي في عدد كبير من الجامعات الأمريكية. وقد صدرت هذه المختارات في العام الماضي، وزرت هذا العام أثناء زيارتي الأمريكية تلك دامعة أوبورن في ولاية ألاباما في الجنوب الأمريكي وهالني أن بها أكثر من ستة آلاف طالب يدرسون كورس الأدب العالمي ذاك وأن بها أكثر من أربعين مدرسا لتدريسه، وقد دعوني باعتباري أحد محرري الآداب غير الأوروبية في هذه المختارات الجديدة كي أفتح لهم آفاق تدريس النماذج المختارة من آدابنا وكيفية ربطها بما يألفونه من الآداب الأوروبية. هذا هو بصيص الأمل الذي أتحدث عنه.
٭ماذا تدرس في الشهور القليلة التي تزور فيها جامعة هارفارد في الولايات المتحدة؟
- أدرس لهم برنامجا عن دور الرواية في صياغة المتخيل الوطني الاجتماعي العربي. فثمة نظرية في نشوء الدولة القومية بلورها أكاديمي مرموق في جامعة كورنيل هو بينيدكت أندرسن في كتاب ترجم مؤخرا للغة العربية بعنوان «الجماعة المتخيلة: دراسة في أصول الفكرة القومية» تقول أن للرواية دورا كبيرا في بلورة ما يسميه بالمتخيل الوطني أو القومي. ولذلك قررت تدريس مجموعة من الروايات العربية تبلور دور الرواية في خلق متخيل وطني، أو بلورة ما يسمى عندنا بالدولة القومية أو الوطنية الحديثة. فالرواية عنده مبنية بنية المجتمع القومي ذاته وتبلور للمواطن الوشائج التي تربطه بغيره من المواطنين الذين لا أمل لديه في أن يعرفهم، ولكنه يتماهى معهم برغم ذلك. وقد بدأت بكتاب المويلحي الشهير «حديث عيسى بن هشام» وكيف تنطوي بنيته ذاتها على التوتر بين القديم والحديث، بين التصور التقليدي للأمة الإسلامية، والذي تجسده المقامة، والتصور الحديث للوطن القومي والذي تبلوره الرواية. ثم انتقلت إلى رواية توفيق الحكيم «عودة الروح» باعتبارها أغنية في حب الوطن وصياغة متخيله بصورة رومانسية له وللتفاني في الذوبان فيه، سرعان ما اكتسبت بعدا واقعيا يموضعها على الوتر المشدود بين الأنا العربية والآخر الغربي في رائعة يحيى حقي «قنديل أم هاشم»، أو يرسخها في الواقع الاجتماعي الشعبي المصري في «ثلاثية» نجيب محفوظ الشهيرة. بعد تأسيس مثل هذا المسار الواضح في بلورة الرواية لفكرة الوطن وقضاياه قدمت لهم مجموعة من التنويعات على الرواية العربية: من «رجال في الشمس» لغسان كنفاني وتحويلها للشتات الفلسطيني إلى وطن يطلب الفعل للتخلص من عار النكبة؛ إلى «طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد واستشرافها للحرب الأهلية اللبنانية قبل حدوثها بزمن غير قصير، إلى رواية «الفتيت المبعثر» لشاب عراقي غير معروف هو محسن الرملي عن تفتت المجتمع العراقي تحت وطأة القهر والحرب العراقية الإيرانية، إلى جانب آخر من التجربة العراقية في «حبات النفتالين» وتصور المرأة للوطن والعالم معا، إلى «لعبة النسيان» لمحمد برادة بمسيرتها الطويلة من مجتمع فاس التقليدي، إلى أحلام الاستقلال الوضيئة التي سرعان ما تخثرت، إلى تشظي المجتمع المغربي في جماعات متجاور وغير متجانسة أو متفاعلة في حفل العرس في نهاية الرواية، وانتهاء بالاغتراب عن اللغة والوطن نفسه في رواية «خريطة الحب» لأهداف سويف.
٭بعد مرور شهرين على وجودك هناك، هل تستطيع أن ترصد هوى أولئك الطلاب الجامعيين؟ كيف يقرأون بلادهم، ثقافتهم، تنوعهم الإثني والديني؟ هل شعرت مثلا أنهم أقل تسامحا أم أكثر تطرفا إزاء إدارتهم؟
- لابد بداءة من معرفة أنني أزور أعرق الجامعات الأمريكية وأبرزها جميعا وفي واحدة من أهم ولاياتها فهي الولاية التي اندلعت منها الثورة الأمريكية وحرب الاستقلال. لذلك فإن طلبتها هم أنبغ أقرانهم في الولايات المتحدة وأسعدهم حظا سواء من حيث الكفاءة العلمية أو الثراء المادي. إذ يكفي أن تعلمين أن مصاريف الدراسة في هذه الجامعة هي أربعون ألف دولار في السنة الواحدة. لذلك ليس غريبا أن يكونوا أكثر من غيرهم وعيا بسلبيات الإدارة الأمريكية الراهنة، وربما أشد الطلاب الجامعيين في أمريكا خلافا معها. كما أن الطلاب الذين أتعامل معهم لا يمثلون حقا أغلبية طلاب هذه الجامعة من حيث الميول السياسية، لأن مجرد اختيارهم لدراسة الأدب العربي الحديث، وشهوة معرفة حاضرنا، تضعهم من البداية في صف ثقافتنا. لكن لابد كذلك من الوعي بأنهم برغم تنوعهم الإثني والديني يشعرون أنهم أبناء الثقافة المنتصرة والمسيطرة معا على عالم اليوم. وهو أمر لايدرك مدى عمقه وفاعليته إلا الإنسان العربي ابن الثقافة التي عانت، ولاتزال تعاني من الهزائم المتتالية، والتبعية المهيضة، والتي تدمر ثقة بنيها بأنفسهم وثقافتهم على السواء. فقد شعرت بمدى أهمية أن تكون ثقافتك منتصرة، ومدى الطاقة الخلاقة التي ينميها هذا الشعور في الشباب خاصة. وأهم من هذا كله نوعية الطاقة التي يوفرها الشعور بالحرية باعتبارها أمرا مسلما به، وليس شيئا لابد أن نحارب للحصول على فتاته أو أقل من الفتات. إن تفكير الإنسان الحر يختلف كيفيا عن تفكير المستعبد والمهزوم. فهناك في الفصل فتاة من أصل كوري، ولكنها أمريكية المولد والثقافة توشك أن تكون تجسيدا للنقلة الكيفية التي يعيشها ابن ثقافة عانت من الهزيمة والتنكيل على يد اليابانيين لفترة طويلة، ثم انتقلت لتشعر بالانتصار والزهو الذي يوفره لها انتماؤها لأمريكا الآن.
٭ بماذا يشبهوننا أولئك الطلبة؟ هل هناك أية إمكانيات للملاقاة في منتصف الطريق؟ فأنت أستاذ في جامعة لندن منذ أعوام، فما هي الفروقات ما بين الطالب الأمريكي والبريطاني، ولو أن جامعة لندن هي الأقرب للعالم الثالث منها لدى جامعتي أوكسفورد وكيمبريدج ذات العراقة المعروفة؟
- بداءة أرجو أن تكون إجابتي على السؤال السابق قد أكدت لك أنهم لا يشبهوننا، لأن المنتصر لا يشبه المهزوم في شيء. إنهم يشعرون بنشوة انتصارهم وبزهو هذا الانتصار الذي يولد فيهم أطنانا من الأدرينالين. لذلك فإن تفكيرهم في الأمور لا يشبه تفكير العربي المهزوم الذي يؤرقه سؤال: كيف يستمر المهزومون في الحياة من غير التخلي عن هويتهم أو رؤيتهم أو قضيتهم. فالطالب هنا يشعر أن العالم هو محارته وأن كل ما يدور فيه يهمه ويؤثر عليه، وبالتالي فإنه يشعر بضرورة التدخل في كل شيء في العالم لا تجنب الانخراط فيه، والتقوقع على نفسه بغية الدفاع عنها أو حمايتها كما هو حال المهزوم.
أما عن إمكانيات الملاقاة في منتصف الطريق فإنها تعتمد على قدرتنا أساسا على قطع منتصف الطريق بين الهزيمة والانتصار. هل باستطاعة المجتمع العربي وهو في أكثر مراحله ترديا في العصر الحديث, وفي أكثر ظروفه تبعية وانصياعا لمخططات أعدائه أن يقطع نصف الطريق؟
أما عن الفروقات بين الطالبين التي تسألين عنها، فإن أول وأهم الفروقات بين الطالب الأمريكي والبريطاني أن الأخير ليس مزهوا بانتصاراته، فقد انصرمت جميعا وغربت الشمس عن إمبراطوريته. بينما يوشك زهو الانتصار أن يتبدى غطرسة في حالة الطالب الأمريكي. وثانيها أن الأمريكي يخضع بشكل منهجي مستمر لغسيل مخ إعلامي مكثف، وخاصة فيما يتعلق بمنطقتنا من العالم وبالصراع العربي الصهيوني. ومن هنا فإنه أكثر تحيزا لأعدائنا أو على الأقل أكثر معرفة بوجهة نظرهم وبتصورهم للصراع من معرفته بوجهات نظرنا وتصوراتنا له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.