بعد ترقب شديد.. بدأت المحطات العالمية ببث إعلان الأكاديمية السويدية بفوز المسرحي البريطاني هارولد بنتر بجائزة نوبل. أعلنه السيد هوراس أنجدال رئيس الأكاديمية السويدية بنفسه، وهو الذي قرأ بيان الجائزة وإعلان الفائز. وفوز هارولد بنتر أمر مفارق كلياً للتوقعات، لا توقعات الصحافة العربية فقط، أو توقعات الصحفيين والمراقبين من الكُتَّاب العرب المرشحين هذا العام لجائزة نوبل: آدونيس، محمود درويش، الطاهر بن جلون، آسيا جبار.. أو توقعات الكُتَّاب الشامتين العرب والحاسدين للنوبليين والذين بدأوا بهجوم استباقي على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية ليفسدوا فرحة العرس كما يقول المصريون، إنما فاقت حتى توقعات المراقبين الغربيين، والمقربين من الأكاديمية السويدية أيضاً.. وهذا ما صرَّح به أكثر من كاتب عقب إعلان الجائزة، وصرحت به أكثر من صحيفة، بل حتى الصحف البريطانية أعلنت أنها فوجئت بالخبر، ذلك لأن هارولد بنتر لم يكن في قائمة المرشحين. فهل هبط الإلهام فجأة على أعضاء الأكاديمية السويدية لعبور سلسلة المرشحين الإشكاليين من العالم الإسلامي، وأقصد هنا بالتحديد أورهان باموق، وقضية تقديمه للمحاكمة بسبب اتهامه لبلاده علانية بمذبحة الأرمن، أو آدونيس.. والخوف من أن تستغل سوريا فوز الجائزة سياسياً لصالحها، أو محمود درويش ومناصفته للجائزة مع الإسرائيلي عاموس عوز، وهكذا عادت الجائزة مرة أخرى لأوروبا. هناك صورة نمطية في ثقافتنا العربية، بل إن هذه الصورة موجودة وبالحدة ذاتها في الثقافة الإيرانية والتركية والأفريقية.. ولدى الثقافات المحيطة بنا أيضاً. وقد جربها الكثير من الكُتَّاب ابتداءً من الكُتَّاب الفرانكفونيين: الطاهر بن جلون، آسيا جبار، ياسمينة خضرة، نينا برواري - هي أنك ستكون مقرباً من الغرب، ومدللاً من قبل مؤسساته، وحائزاً على جوائزه الأدبية الكبيرة التي يمنحها بسخاء، لو جربت وصفة الكتابة بالضد من العالم العربي أو الإسلامي على حساب مجاملة عالم الغرب!! غير أن هذه الوصفة فشلت هذه المرة فشلاً ذريعاً، وخطف الجائزة أكثر الكُتَّاب معاداة للغرب وتقرباً للأمم المحرومة والمهمشة، مثل أمتنا. فهل غيرت الجوائز استراتيجيتها.. أو هل غير الغرب هذه المرة وسيلته في التعامل مع كُتَّاب العالم الآخر - على حد تعبير هارولد بنتر ذاته - وهذا يعني على الكُتَّاب والصحفيين والطامعين الالتفاف هذه المرة على النمط القديم والإطاحة به، وتجريب طريقة جديدة مخالفة للمرة السابقة، من أجل اختصار الطرق، والوصول إلى الجائزة، وهذا الأمر حدث أكثر من مرة، وفي جائزة نوبل ذاتها.. فمنح الجائزة للروائية النمساوية الفريدة، بيلينك العام الماضي، وهي من كُتَّاب اليسار الأكثر تطرفاً في نقد الغرب، ونقد تجربته وديمقراطياته، أو منحها للكاتب المسرحي الايطالي داريو فو وهو المعروف بمعاداته للمؤسسات الغربية، أو حتى منحها لخوسيه ساراماغو صاحب التصريحات الزلزالية فيما يخص فلسطين، وكلنا يعرف تصريحه بالهلوكوست الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والذي جر عاصفة نقدية ضده في الصحافة الغربية، وقد رد عليه بشكل سافر الروائي الإسرائيلي عاموس عوز، المرشح المناصف لمحمود درويش في جائزة نوبل، أو حتى منحها لغونتر غراس المتهم بمجاملته للنازية. هذا من الجانب السياسي فماذا عن الجانب الفني؟ هذا الأمر هو الأكثر إشكالية في جائزة نوبل.. وهو من يستحق الجائزة، ما هي المعايير التي على الجائزة أن تأخذها بنظر الاعتبار في منحها للفائز؟ الفضيحة التي حدثت هذا العام باستقالة أحد أعضاء لجنة جائزة نوبل في الأكاديمية السويدية يكشف حجم المشكلة، فقد استقال السيد نوت اهلند وهو شخصية معروفة بثقلها في لجنة الجائزة، احتجاجاً على منحها لألفريده يلينك، وقد عد كتاباتها بالتافهة، وهذه هي المرة الأولى التي يستقيل فيها أحد أعضاء لجنة جائزة نوبل احتجاجاً على منحها لكاتب لا يستحقها، وقد صرَّح نوت إهلند بأن منحها لكاتبة تنحو العنف قد فاجأ النمسا وأضر بالجائزة ضرراً لا يمكن إصلاحه. وبعيداً عن أهمية يلينك الكبيرة - وإن كانت كاتبة مجهولة في أوروبا - فإن هذا الأمر يكشف عن الغموض في معايير جائزة نوبل، فمن جهة عودتنا لجنة الجائزة على منحها لكُتَّاب لا يميلون كثيراً للتجريب الفني، إنما يتسمون بالكتابة التقليدية على الدوام، ومن جهة أخرى هنالك الجانب الإنساني، ومبدأ الخدمة الاجتماعية، أي مبدأ الفائدة والمنفعة من هذا الفن، وتعبير هذا الفن عن المجتمع، وستكون كلمة الأدب المثالي التي وردت في وصية المانح ألفرد نوبل متطابقة مع هذا المبدأ. ولكن ماذا عن هارولد بنتر.. الغامض.. والمفكك.. والسوداوي.. والمعقد.. وغير المعبر.. والرمزي.. والإشكالي.. والغاضب.. واللامعقول.. والهامشي. لقد كان بيان الجائزة في غاية التجريد والغموض على خلاف كل مرة.. فقد أثر هوراس انجدال رئيس الأكاديمية السويدية أن جائزة هذا العام ذهبت لهارولد بنتر لأنه يكشف (عن الهوة الكامنة تحت الثرثرة اليومية وبغرض دخول غرف القمع المغلقة).. ولا أريد التعليق على هذا الكلام الغامض والمتعجل، ولكن ما أراحني حقاً في تركيب هذه الجملة الغامضة والمفككة إلى حد بعيد هو تفككها وغموضها ذاته، لقد وجدت هذه الجملة تشبه إلى حد كبير حوارات مسرحيات هارولد بنتر (المفككة والغامضة)، وهو أمر مطمئن أيضاً، فهذا يدل على أن الجائزة لم تهبط إلهاماً على السيد أنجدال أو أعضاء لجنة الجائزة كما توقعنا أول وهلة، إنما كان السيد رئيس الأكاديمية غارقاً بقراءة مسرحيات هارولد بنتر حتى أذنيه، كان غارقاً في قراءة مسرحية (الغرفة) و(حفلة عيد الميلاد) و(الحارس) و(خيانة) إلى الدرجة التي جاء فيها بيان الأكاديمية يشبه حوارات مسرحيات هارولد بنتر، والطريقة ذاتها التي كان يكتب بها.