فجع المسلمون في جميع أرجاء المعمورة فجر يوم الجمعة الموافق الثالث من ربيع الآخر من عام ألف وأربعمئة وستة وثلاثين للهجرة بوفاة إمام المسلمين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته. وبفقده فقدت الأمة والعالم واحداً من أبرز القادة حيث جند نفسه رحمه الله لخدمة دينه ثم وطنه وأمته والإنسانية جمعاء.. هذا الملك الصالح هو قائد النهضة الحديثة للمملكة والتي سعى من خلالها لرفع المستوى المعيشي وتحسين نوعية الحياة والارتقاء بالخدمات والمرافق وكفاءتها وتحسين آليات تنفيذ البرامج والمشاريع ومتابعتها وتنمية الموارد البشرية والتي أشاعت الأمل في نفوس المواطنين وعززت من الثقة في الحاضر والتفاؤل بالمستقبل وعززت الأمل لدى المواطنين. اهتم – رحمه الله -بخدمة الحرمين الشريفين، يتمثل ذلك في مشروع خادم الحرمين الشريفين للتوسعة الشاملة وعمارة المسجد النبوي والتي تعد أكبر توسعة في التاريخ للمسجد النبوي الشريف، إضافة إلى توسعة الحرم المكي الشريف والتي تعد التوسعة الأكبر، فضلا عن تأسيسه لعدد من المشاريع التطويرية بالمشاعر المقدسة في مقدمتها مشروعات قطار المشاعر ومنشأة جسر الجمرات ومشروع وقف الملك عبدالعزيز للحرمين الشريفين ومشروعات تطوير توسعة المسعى وتطوير ساحات المسجد النبوي الشريف ومشروع تصريف مياه الأمطار ومركز خادم الحرمين لرصد الأهلة وعلوم الفلك وإعلان بدء توقيت مكةالمكرمة العالمي. كان – رحمه الله – له جهودٌ كبيرة في إرساء القيم النبيلة لخدمة الإنسانية واهتمامه الكبير بتحقيق الحياة المستقرة لكل شعوب العالم، حيث طرح أهم مبادرة تصالحية في عام 2009 "مبادرة حوار الأديان" والتي كانت تعبيرا صادقا عن منهجه يرحمه الله في الدعوة للتسامح والحوار بدلا عن الحروب والدمار وهي المبادرة التي استقبلها العالم على مختلف انتماءاته وتوجهاته بالقبول. لاشك أن الإنجازات هي التي تتحدث عن الرجال وتخلد أسماءهم في ذاكرة التاريخ، وأن الإنجازات الكبيرة والأعمال العظيمة التي تمت في عهد الملك عبدالله لتشهد بذلك. لقد عاش حياته يعمل لخدمة دينه ووطنه وتقدمه في جميع المجالات والميادين حيث دفع مسيرة الوطن الغالي إلى صفوف الدول المتقدمة علمياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وكان رمزاً للحكمة والعقل ونفاذ البصيرة وحسن التصرف فمناقب خادم الحرمين الشريفين كثيرة جداً لا تحصى، حيث أرسى دعائم التعليم والصحة والأمن والزراعة والتجارة وعلاقات دولية مع جميع دول العالم قاطبة. كما أن مواقفه العظيمة لا يمكن أن تنسى فقد عرف عنه حنكته وحسن إدارته للأمور السياسية بعقل وإستراتيجية بعيدة المدى لا شك أن المجال لا يتسع لبيان وذكر مآثر ومناقب الفقيد الراحل التي شملت البلاد والعباد. لقد رحل الملك عبدالله رحمه الله عن هذه الدنيا الفانية بعد أن قاد فيها سفينة كبيرة هي المملكة العربية السعودية وبذل فيها من عمره ووقته في قيادتها ما بذل، جزاه الله خير الجزاء.. وقد خلفه في حمل الأمانة من بعده ملكاً للبلاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وبايعته الأسرة المالكة الكريمة والأمة والشعب كما بويع الأمير مقرن ولياً للعهد والأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وليّأً لولي العهد، فالحمد لله على اجتماع الكلمة والاعتصام بحبل الله المتين. وإذا كان رحيل الملك عبدالله مصيبة كبرى وخسارة عظمى فإن الراية قد سلمت إلى خليفته ونائبه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي كان سنداً وعوناً له في حياته وانتقلت الولاية بإجماع الأمة إلى هذا الملك الإمام، وقدم المسلمون البيعة صادقة لهذه القيادة على منهاج النبوة وتعاليم الإسلام. وهذه البيعة تذكرنا بما كان عليه سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين- من السير على منهج الإسلام، واقتفاء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالبيعة ميثاق إسلامي عظيم وشعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة ومظهر مشرف من مظاهر ديننا الحنيف التي تجسد تلاحم المسلمين واجتماع كلمتهم على إمام واحد، يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه في كل ما ينظم شؤون حياتهم، وما يدل على تعظيم شأن البيعة في الإسلام وأن أمرها عظيم، ما ذكره الله جل وعلا في سورة الفتح في قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). ويدل ذلك أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع). فالبيعة أمرها عظيم وشأنها كبير فيجب الوفاء بها لما فيها من اجتماع الكلمة وتآلف القلوب وحفظ المصالح ولأجل هذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم غاية التحذير من الإعراض عن البيعة وتركها، وتوعد على ذلك فقال: (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية) أخرجه مسلم في صحيحه. وقد ظهر تطبيق السنة في البيعة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز من الأمراء والعلماء والوجهاء أهل الحل والعقد ومن سائر الناس ممن حضر وباشر بنفسه البيعة وصافح الملك بيده أو من الناس الذين التزموا البيعة بقلوبهم واعتقدوا ذلك بنية خالصة حتى من كان خارج الرياض فقد قدم البيعة لنواب الملك وهم الذين فوضهم عنه تفويضاً عاماً في قبول البيعة لتعذر حضورهم والتخفيف عليهم. إن ما تم في هذه المبايعة مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث اجتمع أهل الحل والعقد في هذه البلاد، واتخذوا قرارهم، فمشهد البيعة الذي كان على مرأى العالم، وسمع الدنيا مشهد رائع، فيه إحياء لشعيرة من شعائر الولاية العامة في الإسلام، وثمرة من ثمار تحكيم شرع الله في المجتمع. والبيعة التي رأيناها تمثل حدثاً عظيماً في تاريخ المملكة دينياً وتاريخياً وحضارياً. والبيعة ميثاق وعهد وهي واجبة على الرعية كلها، من باشرها بوضع اليد فقد أعلن وباشر، ومن لم يمكنه ذلك فبايع باللسان أينما كان، ومن لم يمكنه ذلك فيعقد النية في قلبه على مابايعت عليه جماعة المسلمين، ليدخل تحت قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم). ولقد تواترت الأدلة على تحريم نقض البيعة أو الإخلال بشروطها فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية). نسأل الله عز وجل أن يرحم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وأن يفسح له في قبره، وأن يجازيه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، وأن يوفق خليفته خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، وأن يعينه ونائبه صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مقرن بن عبدالعزيز . وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز. لكل خير وأن يعينهم على تولي هذه المهمة العظيمة، وأن يمد في أعمارهم على طاعته.