في كل عام تقريباً، تحدد إحدى المنظمات العالمية يوماً بذاته.. من أجل الإشارة والتذكير بإحدى القيم الإنسانية الكبرى التي في المعتاد لا يمكن بحال فصلها عن التكوين الإنساني المحترم مثل قيمة الأمومة، والشعرية، واللغة.. وأصدقكم القول، إلى هذه اللحظة لم أستوعب أن تكون مثل هذه القيم التي هي من نسيج النسيج في تكوين الإنسان موضع تذكير واستحضار، وسأخص بالتناول في هذا اللقاء آخر قيمة تم استحضارها قبل أيام وتعنينا نحن العرب في المقام الأول وهي اللغة العربية.. والغريب العجيب أنه برغم أن منظمة اليونيسكو تقصد الإشادة باللغة العربية والدفع بالأمة العربية إلى مزيد الاهتمام والإبداع والتطوير ومواكبة التحولات الإنسانية، برغم ذلك تحولت المناسبة إلى بكائيات ورثائيات ولطم خدود وشق جيوب وكأنما لغتنا وحضارتنا وتراثنا قد مسحت من الوجود، ولا شيء يثير الحزن والشفقة والرثاء الحقيقي مثل تلك المقالات المتردية التي تفتتح سقمها أو تَسْتَشْهد بتلك المنظومة البكائية الهزيلة التي ألفها (حافظ ابراهيم) في زمن الإحياء وإعادة التكوين لكل ما يتعلق باللغة العربية، ولكنها (شهوة العويل) التي نجيدها تماماً.. فلست والله أدري هل نحن مثل ذلك الجبان الذي قيل له: إن هناك من سيأتي ليسلب مالك فقضى ليله في الخوف والنحيب، أو أننا مثل ذلك الطفل الشره الذي منحته والدته أكثر مما أعطت إخوته فوضع يديه على ما في حجره وأخذ يرفع من نبرة البكاء والعتاب!! يا سادة.. ياكرام.. يا أحباب.. الشعرية العربية والشعر العربي بخير وسيبقى الفن الأول في العربية كما هو في الفنون العالمية، واللغة العربية بألف خير لا أفاصل حول ذلك لسبب كوني حضري ثقافي ديني.. هو وجود هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. أليست لغته هي العربية المباركة؟ ألم ينزل الله في كتابه الكريم (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)؟ فمن أصدق من الله قيلا؟ ومن أوفى بعهده من الله؟.. وهل يستطيع أحد أن يتصور أن يحفظ الله كتابه دون لغته وقد أنزله قرآناً عربياً؟ أتدرون أين تكمن إشكاليتنا؟ تكمن إشكاليتنا التي تقف خلف تردينا وتفاهتنا في أننا نخلط بين النواميس الكونية ومدركاتنا البشرية المحدودة، ولا نفرق بين السنن الربانية والمقاييس الإنسانية، ونفرغ أنفسنا وذواتنا وعقولنا من الإيمان والطمأنينة الأزلية التي منحنا إياها ونسلمها إلى نعيق من هنا ونعيب من هناك، وإلى إرجاف من أي أرض خراب. أسارع هنا وأسجل أن ما سبق ليس دفناً للرؤوس في الرمل، وليس ولعاً بوجهات النظر المخالفة، وإنما هي - وحق الله - رأي وفلسفة واعتقاد، ومن قبل ذلك ومن بعده إيمان بأن أي قيمة لله فيها نَفَسٌ وصلة من المستحيل أن تترك لتفاهة البشر ورعونتهم وهوانهم وتخليهم عن الأمانة. ولمزيد من طمأنة الخائفين، أذكرهم بأن اللغة العربية هي لغة الأبد والأزل، وهي لغة الدنيا والآخرة، وهي لغة المؤمنين في عرصات الجنان. وهي لغة السماء. المطلوب منا أن نجلل هذا الرأي وأن نكلل هذه الفلسفة وأن نجمل هذا الاعتقاد بشيئين: احتراف الإبداع، وصدق الانتماء. (قد جئت صوب ملاذ الروح أقرأُهُ فعاد يكتبني وشما وتشكيلا القيلُ مسرجةٌ في فعله لغتي والفعل يندب في تكوينه قيلا فلا الزمان إذا هادنته زمني ولا المكان يداني قامتي طولا)